-A +A
فؤاد مصطفى عزب
فجأة تكتشف أنك تكابر، وأن لجسدك عليك حقاً ولنفسك عليك حقوقاً، أنت الذي لم تتعود سوى السير في طريق باتجاه واحد، طريق الواجبات تجاه من لك ومن حولك ومن تحب، ونسيت نفسك على مقعد خلف مكتب وورق محبر بالعرق وعواطف تتدفق كبردي، لا أحد يعرف ذلك إلا من يقترب منك وتقترب منه ويطل عليك من إحدى حجرات القلب، داعياً إياك إلى مكان على الأرض فيه ذلك الدفء العفوي لتصاحبه إليه كمنقذ لك من الطوفان اليومي، تحجز تذكرتك أو تجد من يحجزها لك، تجلس في الطائرة، كل الطرق هكذا تبدأ، رحلة وصديقان، الرحلة كانت إلى «تونس»، والصديقان كانا علي محرق والشريف ناصر المنصور وحلم مثل الخيال أو حلم مثل الواقع، وها أنا في «تونس» مع الفجرية، حيث البشر والحمام يأكلون الفجر طازجاً كرغيف ساخن والعصافير تغسل أصواتها بنسيم الصبح، عصافير الفجر تحكي أحلامها، تنفض ريشها، تستحم بالندى، الصبح هنا يتنفس، يجعلك تخشع أمام هذا الوصف القرآني الرائع، الناس في «تونس» متساوون أمام الشمس والبحر والحنان والحنين، والهواء المنعش الذي يوزع خيراته بالتساوي ولا يستثني أحداً، أصحاب المحلات ترتسم على وجوههم وحول عيونهم نعمة النوم ملء الجفون، يقصدون باب الكريم كأن تنفس الصبح يوقظهم بحنان أبوي، تستمع إلى تعبيراتهم النورانية ولغتهم تتفاءل، تشعر بالنشاط والحيوية، في «تونس» للأماكن نكهتها الخاصة، مذاقها المختلف فالمكان صديق والمدخل مساحة زرقاء وطاولة بيضاء وإبريق شاي، الحوش العربي الأخضر ظل في تونس وجلسة الضحى وعند العصر وعند العشاء، فوانيس الماضي ما زالت تضيء الشوارع الجيرية البيضاء، واللوحات النحاسية ذات الخط الكوفي ما زالت علامات على الطريق ومؤشرات في المدى، في «تونس» ما زال هناك من يستأنس بكلامك عن الحب والخير والقيم المعنوية للإنسان، كنا نستنشق الياسمين من على أسوار المنازل، ما من منزل في «تونس» إلا ويعشق الزهر الأبيض والأحمر والأصفر، ما أجمل «تونس» في كل الأوقات، ما أروعها في الربيع، من لا يحب نهارها يعشق ليلها ومن لا يطرب للطيفة وأمينة فاخت وصوفيا يترنم لصوت لطفي بشناق.. والمقامات للجميع، مدينة شاسعة بحنان لا أدري أيهما أكبر عمراً، أشجار الزيتون الباسقة بعنفوان أم البيوت البيضاء ذات النوافذ الزرقاء الممتدة بعفوية على الأرض، أيهما أكثر حلاوة الزيتون المتدلي من الأشجار كثريات من الكريستال أم تلك الكلمات التي يستقبلك بها «التونسيون»، ما إن تدخل المطار حتى تسمع «ربي يعيشك، وبسلامة» يدلك أحدهم على الطريق إن شعر أنك لا تعرف، يخاف عليك أن تضيع، يمشي معك، يوصلك إلى أول مفرق طريق واضح، يطمئن عليك، تحاول أن تكافئه بغير عبارات الشكر، تمد يدك إلى جيبك، يصرخ في وجهك.. عيب أخوي.. ما يصير.. يقولها وهو يبتعد.. تخجل من نفسك.. في طريق العودة للمطار كان السائق يستمع إلى مغنٍ تونسي شاب اسمه «ظافر يوسف»، كانت الأغنية أكثر ميلاً إلى الغناء الصوفي، صوت مرتعش من مذياع سيارة يمسح الطريق بجمال المعنى «لك الحمائم والفراشات.. لك التمائم والصباحات.. لك التحايا والغويات.. لك الحنين والأغنيات»، كنت أستمع لكل ذلك مستغرقا في مسافات الزمن والصمت أمتص الهواء النقي والجمال، أمتص الخضرة أحيا لحظات الاطمئنان، أمارس الغبطة التي يستشعرها القلب أحياناً، أتركها تغمرني.. بلا تفكير!

* كاتب سعودي


fouad5azab@gmail.com