-A +A
نجيب يماني
في ثقافية «عكاظ» الأسبوعية المميزة العدد 18820 كتب الزميل الباحث «عبدالله الرشيد» بعنوان هل النار موجودة على كوكب الأرض؟ سرد فيه بعض الأقوال التي تؤكد على وجود النار، وإن اخلتف في تحديد مكانها فمن يرى أنها في الأرض ومن يرى أنها تحت البحر ومن يرى أنها تحت الأرض السابعة السفلى ومن قال إن مكان النار موضع في سور بيت المقدس الشرقي، ومن قال إنها في الطريق من مكة إلى بيت المقدس.

وإذا علمنا أنه في العشرين سنة الماضية تكثفت جهود الفلكيين والباحثين العلماء في أعماق الكون السحيق عن أجرام تشبه الكرة الأرضية وما تحتويه من مقوّمات وجود الحياة عليها. وبثّت المسابير والمناظير الفلكية في كل حدب وصوب، ووُجد العديد من الأنظمة الشمسية التي تشبه نظامنا الشمسي وما يحتويه من كواكب يكتنف بعضها بيئات بمقوّمات للحياة عليها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل لشيء من هذه المسابير أن يقع على جنة الخلد التي وعد الله بها عباده المؤمنين وهي من السعة والكبر والضخامة ما يؤهلها لذلك، كما قال تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ..}، بمعنى أنها كبيرة جداً ومن ثم لا يعسر الحصول عليها بأي إشارة أو صورة أو نحو ذلك وكذلك النار التي أعدت للكافرين. ولكن يسبق هذا السؤال سؤال آخر سبق فيه الجدل منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وهو: هل الجنة والنار الآن مخلوقتان موجودتان؟ ويعترض هنا سؤال ثالث مخالط للمسألة منذ نشأة الجدل فيها، وهو: هل يجوز -من الوجهة العقائدية البحتة- أن تكون الجنة خاضعة للمدارك البشرية؟ ذلك لأنه قد تأسّس وأصبح من المعلوم من الدين بالضرورة أن الأصل في أحوال الآخرة بما هو الإيمان بالغيب. ولو خضعت الجنة للمدارك الحسية البشرية لخرج الاعتقاد فيها من حيز الإيمان بالغيب، لأنه لم يعد ثمة غيب وهي تحت مناظرنا وحواسنا ومداركنا. ومن هنا يتضح قبح ما انزلق إليه الزنداني قبل سنوات بدعوة أنه سمع لمن سجل بأجهزة التسجيل أصوات أهل القبور وهم يُعذّبون وذلك في روسيا أثناء قيام بعض الشركات البترولية بالتنقيب عن البترول في سيبيريا. فإن مثل هذا القول ظاهره السقط والبطلان، فالشاهد أن الجنة والنار -والحال كذلك- يكون الجدل في وجودهما الآن إنما هو من باب المناظرة الفرضية التي لا تخضع للعلم الضروري.


وقد اختلف الناس في هذه المسألة على مدرستين: الأولى، وتزعّمها ابن حزم في (الدرة) (206) وابن القيم في (الحاوي) (60) ومفادها أن الجنة والنار الآن مخلوقتان موجودتان واستدلوا على ذلك بحشد من الآيات مثل قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ..}، في حق الجنة، وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ..}، في حق النار، وظاهر المعنى -أي ما يقتضيه فعل الإعداد- أنهما موجودتان ومهيأتان لأصحابهما. ولكن هذا الاستدلال ينخرم بحشد آخر من آيات أخرى معارضة في مثل قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}. مع أن هؤلاء وهؤلاء من أهل الجنة والنار لا يزالون في قبورهم التي في هذه الحياة الدنيا، بل بعضهم لم يزل على قيد هذه الحياة وبعض منهم لم يُولد بعد. ويعترض القول بأن الجنة والنار الآن مخلوقتان استدلال عقلي مستمد من صفات الله سبحانه وتعالى وحكمة قضائه وتصريفه لمخلوقاته ولملكوته. ذلك لأن القول بأن الجنة والنار الآن مخلوقتان يقتضي أن الله سبحانه وتعالى خلقهما وأبقاهما طيلة ملايين السنين لم (يعتريهما) أي لم يتم استيفاء لمنافعها التي خلقها الله لعباده المؤمنين وهذا في الحقيقة مناقض للحكمة التي تتصف بها أفعال الله سبحانه وتعالى. أضف إلى ذلك أنها -أي الجنة والنار- على فرض أنهما موجودتان الآن، فإنه سوف يجرى عليهما الفناء قبل يوم القيامة، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، فيكون المحصلة النهائية أن الله سبحانه وتعالى خلقهما وأوجدهما طيلة هذه السنين الطويلة ثم أفناهما ثم يعيد خلقهما يوم القيامة، وهذا ينافي ما يتصف به الله سبحانه وتعالى من الحكمة.

إذاً فالجنة والنار الآن ليستا مخلوقتين وإنما يخلقهما الله سبحانه وتعالى يوم القيامة كما يخلق في حينها أجزاء أخرى في الكون، وأنهما أي هذه الجنة والنار، إنما تكونان على هذه الأرض. وهذا دليل آخر على أنهما ليستا مخلوقتين الآن، لأنه لا توجد على هذه الأرض نقطة صغرت أم كبرت بعدت أم قربت إلا وهي مرصودة معلومة عن طريق الأقمار الصناعية الهائلة التي تجوب الفضاء على مسارات ودروب مختلفة. والأدلة على أن الجنة والنار والحساب وكل ذلك إنما يكون على هذه الأرض بحشد آخر من الآيات مثل قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا..}، وقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}، وقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ..}، وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ}، وقوله تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْــرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}. وقوله تعالى {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}، فدلت هذه الأية على خروج الناس للبعث والحساب والجنة والنار كلها مترابط بعضها ببعض فلا تكون إلا على ما جاءت فيه الأيات وهي هذه الأرض بعد تكوينها فلو افترضنا أنها مخلوقة فأنه يصبح من العلم الضروري أن تكون معلومة ومعروفة للناس اليوم عن طريق رصد الأقمار الصناعية والمناظير الفلكية، وهو قول في غير محله. كما أنه لو أصبحت الجنة والنار في مدارك البشر الحسية لخرجت من الاعتقاد بالقلب إلى العلم الضروري الحسي وهذا خلاف الأصل لأنهما تدخلان في الاعتقاد باليقين كجزء من الاعتقاد في اليوم الآخر وهو ركن من أركان الإيمان الستة.

إن هذا الاختلاف إنما هو من عظمة هذا القرآن الذي أنزله الله على عبده محمد عليه الصلاة والسلام وأنه ليس مجرد ورقات نمر عليها، إذ لابد أن نتعمق في كلماته وجمله ونعرف ما تحمله من حقائق وأحداث ومسيرة الكون والتكوين. ما فرط الله فيه من شيء كل ما نحتاجه وكل الظواهر التي تحيط بنا موجودة بين دفتيه لا نهاية لأسراره ولا حدود لمعجزاته، أنزله الله وحفظه بأمره، فوجب علينا كمسلمين أن نفهم معانيه ومضامينه بتمعن وتدبر. وأن نتعمق في أسراره وننبش في خباياه وسنجد فيه الكثير مما أغلق علينا فهمه وكلما تعمقنا تعلمنا. والمطلوب أن لا نقف عند تفاسير الأولين فهذا ما وصل إليه حدود فهمهم ومنتهى علمهم وأن نشجع كل دارس وباحث ولا نتهمه، ففي هذا الكتاب العظيم أسرار لم نفكها بعد.

* كاتب سعودي