-A +A
نورة محمد الحقباني
ليس هناك أدنى شك في أن الرياضة لا تقل أهمية عن السياسة. كما أن الرياضة لم تعد تقتصر على الجوانب الترفيهية، والتنافسية، بل أضحت ترتبط بالهوية الوطنية، وتتوسع لتشمل فئات المجتمع ذات الاحتياجات الخاصة. ونتذكر كيف أن مباراة في كرة مضرب اليد غيرت مسار العلاقات بين الصين والولايات المتحدة في منتصف سبعينات القرن الـ20. ويأتي هذا المقال استكمالاً لما بدأته في سلسلة المقالات الرياضية. وأطمح إلى أن يكون فيه تحليل واقع لممارسة الرياضة في مجتمعنا، مع التطرق لبعض المعوقات الفكرية، والمادية، والاجتماعية، والصحية، وهي في مجملها عوامل جعلت الرياضة أمراً ثانوياً في حياتنا، أو جعلت مفهومها لدى العامة يقتصر على جانبها الترفيهي وحده.

أهم المعوقات الفكرية التي تحول دون قيام الرياضة بدور متكامل في البناء الوطني تتمثل في ارتباط الرياضة بجنس من يمارسها (الذكور). وهي نتيجة لاقتصار صفوف الرياضة في مدارس البنين، وحظرها في مدارس البنات. وهو عائق لا يزال يثير جدلاً منذ نشأة تعليم البنات في بلادنا. وبسبب ذلك ارتبطت الرياضة شيئاً فشيئاً بفهم خاطئ يزعم ضعف الإناث، وعدم وجود قدرات جسدية لديهن على ممارسة الرياضة. وقاد ذلك نوعاً ما إلى الاعتقاد الجائر بأن من تمارس الرياضة لا بد أن تكون «مسترجلة»!


ومن أسوأ العادات التي ارتبطت فكرياً بممارسة الرياضة أنها تُمارس لأهداف مؤقتة وسطحية، تهدف إلى المظهر وليس الجوهر؛ كإنقاص وزن، وعلاج ترهل، وبناء عضلات، أو نحت الجسد. وهي معوقات لا بد من الإسراع في معالجتها لتحقيق الغرض السامي المنشود من ممارسة الرياضة في مجتمع يتطلع لأن يكون جزءا لا يتجزأ من العالم.

وثمة معوقات سوسيولوجية لا ينبغي إغفال تأثيراتها الضارة؛ إذ إن الأجيال الشابة يقضون غالبية أوقاتهم على الأجهزة الإلكترونية، بل ينامون ويستيقظون عليها ومعها. وقد أدى ذلك، في جانب كبير منه، إلى تضاؤل المهارات المكتسبة عن طريق التعلم التقليدي. وأدى إلى شيوع مشكلات معاصرة، من قبيل السمنة والترهل البدني، والأمراض الناجمة عن قلة الحركة. كما أن التواصل الاجتماعي الحقيقي تضرر أكثر من غيره من جراء ذلك، بعدما باتت وسائل التواصل الاجتماعي تقوم مقام الزيارات الشخصية، وزيارات التعارف والمجاملة، واكتساب الخبرات الحقيقية من الحياة التي صدق من وصفوها بأنها مدرسة، بل جامعة كبيرة.

ففي الماضي قبل هذه الأجهزة كنا نلعب في طفولتنا ألعاباً شعبية حركية، مثل «طاق طاق طاقية» و«الحبشة» و«طش» وغيرها. ولم يكن هناك شعور بالملل والضجر من تلك الألعاب البريئة التي لا تخلو من خبرات يكتسبها الطفل قبل أن يكبر ليبحث عن رياضة تحقق له معاني الترفيه، والتنافس، وكيفية الاجتهاد والاستعداد.

وهناك معوقات مادية تجعل الرياضة ليست نشاطاً في متناول الشباب من جميع الطبقات والأعمار. فلا بد من الجهر بحقيقة غلاء أسعار غالبية الأندية. فالمميز منها أسعاره غير مقدور عليها، إلا من طبقة معينة في المجتمع، فهناك كثير من المواهب تموت بسبب ذلك الاستبعاد القسري. وهناك بالطبع عوامل صحية، منها النفسي. ومنها العضوي. ومن أسباب بعض العوامل النفسية الكسل، والخمول. ومن مسببات العوامل الصحية المعيقة سوء التغذية، ونقص الفيتامينات، أو عدم شرب كميات كافية من الماء.

وإذا نظرنا إلى جانب مهم في المعوقات الاجتماعية، سنجد الجانب الأخلاقي مسيطراً، إذ إن كثيراً من الأسر تسعى لتحطيم مواهب أبنائها، وتحارب ميولهم لممارسة الرياضة، وتطوير مواهبهم في ألعابها المختلفة، لخوفهم على أبنائهم من الالتحاق بأي مجال رياضي، بدعوى أنه يمكن أن يؤثر على أخلاقهم، أو سلامتهم. والسؤال هو: هل الرياضة هي السبب؟ أم أن رفقة السوء، أو الهشاشة الفكرية التي تدعو الشاب للاقتداء بمشاهير نجحوا ولمعوا ثم دمروا أنفسهم بممارسات سيئة هي السبب الحقيقي؟

أما معوقات الوصول إلى الخدمة فيكمن بعضها في عدد الأندية، وتوزيعها على الأحياء، وتوافر المختصين فيها. والواقع أن المنشأة الرياضية ينبغي أن تكون مثل المدرسة. يتوافر فيها المعلمون والمدربون، ولكن يوجد فيها أيضاً المشرفون الاجتماعيون، والاختصاصيون النفسيون، والأطباء المهرة. ويتصل بذلك أهمية وجود ما يحفز استمرار النمط الرياضي في الحياة، وهو وجود مراكز لبيع الأغذية الصحية في الأندية، أو بالقرب منها. فليس كل الأشخاص لديهم القدرة على توفير الطعام الصحي، أو الوقت الكافي للقيام بذلك بأنفسهم. وحين يؤخذ هذا الجانب من أبعاده المتكاملة فسيقود إلى ضرورة أن تكون تلك الأندية مؤسسات تعليمية وتثقيفية مقتدرة. إذ إن الرياضة ليست جسماً سليماً فحسب، بل هي جسم سليم في عقل سليم.

ولعل القول البريطاني الدارج يؤكد ذلك: الرياضة هي النقطة التي يلتقي عندها الاستعداد الجيد والفرصة السانحة. ويعني ذلك ضرورة تهيئة البيئة المواتية للنجاح. فالرياضة كما أسلفت هي في أساسها فن تعلم الحياة. ومن الطموح والتدريب والإخفاق يأتي النجاح، فالرياضة تربية النفوس قبل أن تكون إحرازاً للكؤوس.. وفِي المقالات القادمة سأتطرق إلى أهداف وحلول مقترحة.

* إعلامية وكاتبة سعودية

Norah_mohammed@