-A +A
محمد مفتي
عقب إعلان النائب العام عن إطلاق سراح عدد من محتجزي فندق ريتز، بعد قبولهم تسويات مالية يتم بموجبها إعادة ما يقرب من 400 مليار ريال إلى خزينة الدولة، هذه التسوية حدت بالبعض لطرح عدد من التساؤلات عبر شبكات التواصل الاجتماعي على اختلافها، ربما كان من أهمها سبب عدم محاكمة هؤلاء المحتجزين بصورة رسمية معلنة، طالما أن الاحتجاز والتسويات التي أعقبتها اقترنت ولو ضمنياً بشبهات فساد مالية، كما حاول البعض الآخر التشكيك في جدوى تلك الحملة باعتبار أنها في نهاية المطاف لم تتضمن الإجراءات المتعارف عليها لمعاقبة الفاسدين، بينما طالب بعضهم بضرورة التشهير بهؤلاء المفرج عنهم، وبضرورة الإعلان عن أسمائهم وممتلكاتهم وعن طبيعة المخالفات المالية التي قاموا بارتكابها في حق المجتمع بأسره.

بداية يجب أن نوضح أن مبدأ التسوية سواء في ما يتعلق بارتكاب المخالفات المالية أو حتى الجنائية كجرائم القتل والسرقة وغيرها، هو مبدأ متعارف عليه دولياً وتطبقه الكثير من دول العالم، ولهذا المبدأ أهداف عديدة، لعل أهمها اختصار الإجراءات القانونية وتكثيفها للوصول للنتيجة المرجوة دون المرور بإجراءات التقاضي الاعتيادية التي تتسم بالطول النسبي في غالبية الأحوال، كما أن سرية التفاوض وبُعدها عن أعين الإعلام تسهم في تحفيز المتهمين على الإدلاء بأكبر قدر من المعلومات في ما يختص بموضوع الاتهام دون الشعور بضغوط التشهير أو الخوف، ومن هنا فإن أجهزة الدولة تستخدم التسويات كسلاح مضمر ضد المتهمين تتمكن من خلاله من تحقيق نتائج أكثر فعالية في وقت قصير نسبياً وبما يحقق لها أهدافها المرغوبة.


من الأهمية بمكان أيضاً أن نلاحظ أن التشهير يُفقد التسويات المبرمة مع المتهمين مغزاها، فلو تم التشهير بالمشتبه به فعلى أي أساس سيتم التفاوض؟ كما أن سرية التفاوض ستسهم في دفع الكثير ممن تورطوا في شبهات الفساد المالي - من غير المحتجزين - في الإسراع في الاعتراف بما ارتكبوه من مخالفات، آملين من الدولة أن تقدر مبادرتهم وتعقد معهم تسوية مخففة العقوبة، هذا بخلاف إسهام سرية التسوية في إعادة هؤلاء المستثمرين لمزاولة أنشطتهم وأعمالهم التجارية دون إلحاق ضرر كبير بها، كما أنها تمس دخل آلاف الأسر من العاملين في تلك الأنشطة، وتؤثر بالضرورة على حياتهم الاجتماعية وأمنهم واستقرارهم الوظيفي.

لا شك لدينا من أن الهدف من إطلاق تلك الحملة ليس معاقبة مستثمر محدد أو التضييق على رجل أعمال بعينه، بل الهدف منها استعادة رأس المال الوطني والقضاء على ظاهرة الفساد وعلى كافة مظاهره، والوصول لتلك النتيجة يمكن أن يتحقق من خلال عدة طرق، غير أن أسلوب التسويات تعد أفضلها على مستوى النتائج وأقصرها من منظور الوقت، وما يحدث الآن هو ما حدث بالفعل قبل عدة سنوات، عندما أعلن الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- عن إنشاء صندوق أطلق عليه صندوق إبراء الذمة، وطالب الكثير من المسؤولين ممن تحوم حولهم شبهة الفساد وقتذاك بإبراء ذممهم المالية، وذلك من خلال وضع المبالغ التي قاموا بالاستحواذ عليها بشكل غير نظامي فيه، مقابل وعد من الدولة بعدم ملاحقتهم قضائياً.

من خلال متابعتي لبعض قنوات التحري الفضائية - على سبيل المثال قناة Investigation Discovery - والمتعلقة بعرض الجرائم المالية وغير المالية كالقتل والسرقة والسطو المسلح، لاحظت أن كلاً من الشرطة الفيدرالية الأمريكية FBI والمدعين العموميين في الكثير من الولايات يلجأون لمبدأ التسويات مع المتهمين، وذلك لنفس الهدف السابق ذكره، وهو حثهم على الاعتراف بارتكاب جرائمهم بشكل مباشر، أو لدفعهم للتعاون معهم للإيقاع ببعض المجرمين ممن لم تتمكن الدولة من القبض عليهم بعد، وعادة ما يكون مقابل تلك الصفقة هو حصولهم على حكم قضائي مع إيقاف التنفيذ، أو تخفيف الحكم الصادر بحقهم (من الإعدام - مثلاً - إلى السجن المؤبد).

في واقع الأمر تعد هذه التسويات حقاً من حقوق ولي الأمر وأحد اختصاصاته وأهم مسؤولياته؛ لأنها تصب في نهاية المطاف في الصالح العام للمجتمع ككل، وهذا النهج ليس بدعة جديدة في تاريخ المملكة، منها على سبيل المثال منهج المناصحة التي تتبناه الدولة تجاه المغرر بهم، فالدولة تعفو عن هؤلاء في مقابل توبتهم الفعلية عن اقتراف المزيد من الجرائم ضد المجتمع، وذلك بهدف إعادة تأهيلهم للعودة لممارسة حياتهم الاجتماعية داخل وطنهم بشكل طبيعي، ومنها أيضاً المهلة التي تمنحها في كثير من الأحيان وزارة الداخلية لمخالفي نظام الإقامة، لتسليم أنفسهم والعودة إلى بلادهم، مقابل عدم ملاحقتهم قضائياً، وكم أتمنى بالفعل «تقنين» مبدأ التسويات وضمه لإجراءات النيابة العامة، وتعميمه حتى يشمل الجرائم الجنائية، وذلك حتى يتم تحفيز الخارجين عن القانون ليقوموا بتسليم أنفسهم، ويدلوا بالمعلومات المهمة التي تسهم في نهاية الأمر في تقليص عدد الإجراءات القضائية، وخفض معدل الجريمة داخل المجتمع بشكل ملموس.