-A +A
إدريس الدريس
لو سئلت عن أبرز الابتكارات البشرية وأكثرها فائدة وجدوى لوضعت قائمة طويلة من تلك الاختراعات التي يسرت الحياة وجعلتها أجدى وأسهل وكنت سأجعل البزبوز واحداً من هذه الإنجازات الخالدة، والبزبوز أو الصنبور تسمية شائعة عندنا أما في مصر فيسمى الحنفية ويقال إن سبب تسميته بالحنفية هو أن السقائين في مصر قد غضبوا من هذا الاختراع الذي يلغي الحاجة لهم ويقطع بالتالي مصدر رزقهم وأنهم لذلك قد ذهبوا للمفتي يشكون حالهم، فتم إصدار فتوى تحرم استخدام البزبوز تضامناً معهم، إلا أن أتباع المذهب الحنفي لم يقبلوا هذه الفتوى ورحبوا بهذه الآلة الجديدة التي نسبت لاحقاً للمذهب.

والصنبور أو الحنفية هي النهاية الطبيعية لعالم معقد من التمديدات والأنابيب التي تمرر الماء في دورة منتظمة من أسفل مكان تحت الأرض لتخزينه إلى أعلى صندوق في المنزل، ثم يتم استدعاء الماء عند فتح مغاليق البزبوز فيتدفق تباعاً في دورات وأوردة المنزل أو المنشأة ليغمر حياتنا بالارتواء والنظافة والانتعاش والناس قبل دورة السباكة الحديثة في كد وجلد يغرفون من براميل متراصة قد جلب ماؤها على ظهور الدواب أو محمولاً بالقرب على ظهر السقاء، ودائماً أشعر بنعمة البزبوز وقيمته أكثر إذا انقطع الماء واضطررت للعودة إلى المرحلة البراميلية وتعظم قيمة هذا الاختراع عندما يكون الماء شحيحاً في بلاد ليست نهرية ولا ينابيع فيها، كما هو حال بلادنا التي حظيت إلى جانب نعمة السباكة الحديثة بنعمة التحلية حتى صرنا نشرب البحر و«إحنا راضين».


والبشر في كل ذلك مدينون لمخترع البزبوز الإنجليزي توماس كامبيل.

اللافت للنظر هو أن البزبوز في تضاد عكسي مع الفم واللسان فكلما تم إغلاق الفم عن سقط الكلام كان ذلك أسلم وأكثر أمناً وعلى العكس من ذلك فكلما توقف البزبوز أو جف فذلك يعني العطش والاتساخ واذا انفتح على مصراعيه جاد بالحياة، لكن بعض البشر يتمتعون بأفواه مثل البزبوز الصدئ أوالخربان والذي لا يتوقف عن التنقيط والخرخرة فترى هذا «الآدمي» مهذار مكلام مكثار بنميم لا يكاد يبلع ريقه فيما لسانه يبطش ويلطش ويهمز ويلمز ولتجدنه أشد الناس حاجة لسباك يكرب حنكه ويضبط جلبة لسانه ومعلوم أن اللسان قد يصبح مناط الحكمة والكلام الحسن، لكنه أيضاً يمكن أن يجر صاحبه إلى الهلاك وتكمن المهارة الفردية في السيطرة على الخارج من هذه البوابة والتحكم في الكلام الذي يتسرب منها متى يقوله ؟ وأين يقوله ؟ وما لا يجب أصلاً أن يقوله.

كانت والدتي - يحفظها الله - تغضب منا نحن أولادها يوم أن كنا صغاراً نتحدث بما لا يعجبها، فكانت تستخدم مثلاً شعبياً للتعبير عن عدم رضاها ولم أكن وأنا صغير أفهم معنى المثل إلا في كونه ردعا وتأنيبا ونهيا.

كان مثلها الذي توالى تكراره علينا (يا ليت حلقي حلق نعامة) وقد أدركت لما كبرت خاصية حلق النعامة الطويل، والذي يفلتر الكلمة وينظفها قبل أن تصل إلى اللسان وتنطق.

اللهم اجعل كلامنا في ما يرضي الله ورسوله ولا تجعل أفواهنا كالبزبوز الخرار.