-A +A
كامل الخطي
قامت الدولة السعودية الأولى على قبول الإمام محمد بن سعود دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتبنيها، لكن الدولة السعودية الحديثة التي أسسها المغفور له الملك عبدالعزيز، قامت على الحق التاريخي الذي به استرد الملك عبدالعزيز الرياض ومنها انطلق بمشروعه التوحيدي إلى أغلبية مناطق شبه الجزيرة العربية واضعاً إياها تحت حكم دولة مركزية حققت لسكان الجزيرة «الأمن والأمان». هذه الدولة المركزية قامت على حق مدني بحت، وارتضى مواطنوها الانضواء تحت لوائها لأن ما وفرته من «أمن وأمان» هو الحاضن الطبيعي للنمو والتطور المدني، وهو الأرضية المستوية لاستقبال التحديث؛ من تعليم، ورعاية صحية، ومواصلات، واتصالات، وطرق تقاضٍ، وسنّ أنظمة، وإصدار تشريعات، وتأسيس أجهزة أمن، وتشكيلات عسكرية نظامية، وأجهزة وإدارات للحكم المحلي.

مع دولة الملك عبدالعزيز تحديداً - وليس قبلها - بدأ مفهوم «المواطنة السعودية» في التبلور والوضوح؛ فأصبح العسيري، والجيزاني، والنجراني، والقصيمي، والحائلي، وابن العارض، وابن الشمال، والأحسائي، والقطيفي، والمكي، والمدني، وابن البادية، سعوديين أولاً، وهو البند الأساسي في العقد الناظم لعلاقة الحاكم (البيت السعودي) بالمحكوم (أغلبية أبناء شبه الجزيرة العربية)، وشبه الجزيرة العربية شاسعة المساحة، متعددة المناخات والتضاريس، وفيها وجود لكلّ المذاهب الإسلامية تقريباً.


كل هذه الحقائق الموجودة على أرض الواقع لم تشكل فيما مضى تهديداً جوهرياً لوحدة الدولة السعودية وتماسكها، كما أن الدولة السعودية لم يسبق لها اختراع أعداء وهميين بهدف ضمان التفاف مواطنيها حول محورها، وكلّ مرة تعرّضت فيها الدولة السعودية لخطر خارجي مباشر وواضح التفّ حول الدولة مواطنوها بشكلٍ عفوي، مدفوعين بغريزة البقاء، وإيثار السلامة.

الزخم الوطني الذي جاء رداً على الجرائم التي ارتكبتها قوى الإرهاب في حق المملكة، ومواطنيها، والمقيمين فيها، التي راح ضحيتها عشراتٌ من المواطنين، ومن رجال الأمن، رسّخَ لديّ قناعة بأن «الهوية الوطنية الجامعة» هي الملاذ في الملمّات، ولا بديل لها، ولا شيء يغني عنها. هذه «الهوية الوطنية الجامعة» تعرّضت لحجبٍ؛ بسبب تراكم ممارسات اتّسمت بالمماحكة، وجرّ النار إلى الرغيف. هذا الحجب الذي تعرّضت له «الهوية الوطنية الجامعة» بدأ مع بداية صعود الخطاب القومي، ثم خفّت كثافة الحجب في أثناء عقد السبعينات من القرن الميلادي العشرين. ولم تلبث هذه الهوية طويلاً في التنعّم بالهدوء؛ فقد عادت وتعرّضت لمحنة صعود الإسلام السياسي مع نجاح الثورة الإيرانية، وامتطاء رجال الدين صهوتها أولاً، ثم صهوة الدولة الإيرانية نتيجةً لتصدّرهم الثورة.

الإسلام السياسي موجود في عالمنا العربي والإسلامي منذ البدء، لكنه خطا خطوات نوعية منذ تداعي أركان السلطنة العثمانية؛ لأن الجدل الفقهي-السياسي الذي دار أثناء سنوات سقوط السلطنة بُعيد الحرب العالمية الأولى، وإبقاء «الخلافة» من دون سلطة بعد إعلان قيام الجمهورية في تركيا، استدعى نشاطاً محموماً نظّمته نخب إسلامية تنتمي جغرافياً إلى أصقاع تمتد من شرق آسيا، مروراً بشبه القارة الهندية، وآسيا الأوروبية، وتركيا، وبلاد الشام، والعراق، ومصر، إلى بلدان المغرب العربي. هدف هذا النشاط إلى إبقاء مؤسسة الخلافة على قيد الحياة؛ لتبقى رمزاً لما أُطْلِقَ عليه حينذاك «الجامعة الإسلامية»، وقد مهد هذا النشاط، والجدل الذي نَتَج عنه، الأرضية التي قامت عليها مشاريع الإسلام السياسي وأحلام الدولة الدينية.

قُبيل انتهاء عقد الثلاثينات من القرن الميلادي العشرين، وبعد نحو أربعة أعوام على إعلان تركيا الكمالية إلغاء الخلافة، ظهر للوجود تنظيم سياسي إسلامي، هو جماعة «الإخوان المسلمون». هذه الجماعة ربما لم تتّخذ من «الخلافة» شعاراً صارخاً لها، لكنها عملت من بدايتها على الوصول للحكم بشتى الوسائل، وهدفها المعلن الذي كان - ولا يزال - هو (الإسلام هو الحل). هذا الأمر يعني سعي الجماعة الدائم والدؤوب إلى إقامة الدولة الدينية، التي تتعارض تمام التعارض مع مفهوم «الدولة الوطنية».

الدولة الوطنية بطبيعتها تعترف بالتنوّع، وترعى حقوقه، على أن تأتي جميع هويّات مكوّناتها في مرتبة أدنى من مرتبة هوية الدولة. كما أن الدولة الوطنية قد تتأسّس بتغلّب عنصر من عناصر حيّز جغرافي-سياسي على عناصر أخرى تساكنه الحيّز ذاته، أو تجاوره في حيّز هي أضعف من أن تؤسّس فيه دولةً بالمعنى المدني الحديث، وهذا الأمر ينطبق على النموذج السعودي.

الاعتداءات الإرهابية التي وقعت على التراب الوطني السعودي، واستهدف بعضها المواطنين الشيعة، كانت بمنزلة المقامرة، التي أراد بها الذي أقدم عليها أن يضرب معنىً وجودياً من معاني الدولة السعودية، والقصد من ذلك هو إحداث خلل عميق يؤسّس للتمزيق، ويبدأ بشقّ الصف الوطني السعودي، لكن ردّات الفعل الرسمية والشعبية أفشلت هذا المكر الإرهابي إلى الآن.

السؤال الذي يجب أن نضعه نصب اهتمامنا، ونجيب عنه بشجاعة من دون الاختباء وراء أصابعنا، هو: ما الظروف التي أغرت أعداء المملكة بالمغامرة في مثل تلك الأوقات، وبمثل تلك الكيفيات؟

قبل الشروع في الإجابة، حريٌّ بنا أن نتوقف عند حقيقةٍ، ونقرّها ونعترف بها أولاً. هذه الحقيقة هي أن من نفذ الجرائم ما هم سوى أدوات، وقتلهم في المواجهات، أو القبض عليهم وعلى مشغّليهم الميدانيين، مع أنه نجاح أمني منقطع النظير، إلَّا أنه لا يعني انتفاء التهديد مرةً واحدةً إلى الأبد.

سبَق أن تداعى عشرات من المثقفين السعوديين، لمناشدة جميع الشركاء في الوطن العربي السعودي، خصوصاً علماء الدين والدعاة والمحتسبين، بأن يضعوا حداً فاصلاً بين حلقات الدرس ووسائل الإعلام؛ إذ لهم أن يَدْرسوا ويُدَرِّسوا ما شاء لهم من كتب ومناهج، لكن ليس لهم جلب ما يدور في حلقاتهم إلى وسائل الإعلام؛ فالمتلقي عبر وسائل الإعلام - غالباً - من المنتمين إلى العامّة، الذين يتخذون المواقف بناءً على العاطفة؛ إذ ليس مطلوباً، ولا متوقعاً، من عامّيّ أن يُعْمِلَ عقله قبل تحديد موقفه، وإلَّا لما كان من العامّة. جلب المناظرات العقدية، وإظهار مجالدي كلّ فرقة الازدراء باتجاه الفرقة الأخرى عبر وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، يهدف إلى التحشيد، ثم الشحن، فالتحريض، فالتجنيد، فالقيام بما يهدّد كلّ معاني الوحدة، التي هي مدماك الكيان العربي السعودي، والتي هي الأصل الأثمن والأهم من كلّ شيء آخر، بما في ذلك الثروات الطبيعية التي حبانا الله بها؛ فالوحدة الوطنية تعني الإنسان، أياً كانت خلفيته السابقة على الدولة، ما دام هذا الإنسان ملتزماً القول والعمل بتقديم الهوية العربية السعودية قبل أيّ انتماء فرعي، سواء كان مذهبياً أم قبلياً أم مناطقياً. مبدأ «الوطن أولاً» بالفعل قبل القول يحتاج منا جميعاً إلى العمل على إزالة الأسباب التي أضعفته، أو حجبته عن مكانته السامية إلى مكانة ثاوية في مرتبة أدنى من الانتماءات ما قبل الدولتية.

لمسنا جميعنا كيف أن الوطنية العربية السعودية كانت المَفْزَع حين أدركنا حجم الخطر الذي تسلّل إلينا بتكتيك «حصان طروادة»؛ هذه الهوية التي لجأنا إليها في لحظات الخطر الداهم، أزلنا عنها ذلك الحجاب الكثيف المتراكم خلال عقود، في فترة زمنية لم تتجاوز ساعات قلائل، مدفوعين بحاجتنا إلى «الأمن والأمان»، وهي لحظات تاريخية يجب أن نستثمرها أحسن ما يكون؛ لكي نزيل كلّ معوّقات الإحساس بالوطن الواحد، ولنقدِّم المثال العمليّ الواضح على أن المقاصد الأساسية التي أرادها المؤسِّس لا تزال هي الإطار الذي يضم لوحة «السعودية الواحدة»، و«السعودي الواحد»، وأن الادِّعاء بوجود «السعودي الآخر» هو وهم تسبّبت به ظروف طارئة غير مقيمة، وعمل على ترويجه من يتربّص بالمملكة ووحدتها، وإن اللحظة حانت للتخلّص من هذه الظروف، والتخلص من أسبابها، وإن هذا الوطن بما فيه من المخلصين من ذوي الكفاءة قادر على تشخيص علّاته، واقتراح طرائق علاجها، ولهذا الوطن قيادة قادرة على تبنّي الاقتراحات البنّاءة، وتحويلها إلى خطط عمل تعيد إلى مفهوم «الوطن أولاً»، ومفهوم «السعودي الواحد»، العمق الذي بدا كأنه يتسطّح أمام زحف المفاهيم القومية أولاً، ثم تحت زحف المفاهيم المذهبية التي عملت فصائل الإسلام السياسي على ترويجها وإحلالها محلّ الهوية الوطنية الأم.

أول خطوة أعتقد أهميتها هي العمل على عزل الداخل بكلّ ما يحتويه عما يدور في الإقليم من صراع سياسي يتّخذ من المذهبية رافعةً وحافزاً؛ فإيران - منذ تسلم رجال الدين حكمها - وهي تراهن على الشيعية العربية لإحداث قلق وتوتّر لجاراتها في منطقة الخليج، وحقّقت بعض الاختراقات الناجحة فيما مضى. النجاحات التي حقّقتها ايران ما كانت لتكون لو أن الصفّ الوطني مُنجز التحصين على وجه التمام؛ فإيران اعتمدت في خروقاتها على استغلال مشاعر بعض الشيعة العرب، وهذه ثغرة ممكنة السدّ والتعزيز بالطرائق التقليدية التي سادت علاقة الحاكم بالمحكوم، وشادت بينهما ثقةً متينةً تكفّلت بحلحلة أكثر القضايا تعقيداً واستعصاءً. لا أقصد بالعزل المزيد من إجراءات الرقابة على الممارسات السلمية في التعبير عن الرأي، ولكن أقصد أن نسعى إلى امتلاك القدرة الفائقة على تحديد ملامح الخطاب الذي يروّج الكراهية، ويضعف معنى «السعودية الواحدة» و «السعودي الواحد» على المستوى الإجرائي، وعلى مستوى الحقوق والواجبات.

لدينا في المملكة مبادرة قائمة للحوار الوطني، لكن هذه المبادرة لم تُعطِ بعدُ الثمار المرجوّة منها. هذه ليست نهاية الطريق؛ إذ ما زالت أمامنا الفرص لترقية مهامّ المبادرة، وإعادة هندستها، عبر تكليف الكفاءات المشهود لها بصدق الإخلاص لمعنى «الوحدة الوطنية» تقديم مشروعات تهدف إلى إعادة عمق المعنى لمفاهيم في غاية الحيوية؛ مثل: «السعودية الواحدة»، و«السعودي الواحد»، على أن تُقيَّد هذه المشروعات بأطر زمنية تُلغي النهايات المفتوحة، وأن تكون من الواقعية إلى الدرجة التي يمكن أن تزعج أحياناً.

لدينا أيضاً هيئة حقوق الإنسان، التي قد تحتاج هي الأخرى إلى إعادة هندسة؛ لكي تعمل بفاعلية كبرى، ولكي تنسّق عملها مع جمعية حقوق الإنسان، التي تحتاج أيضاً إلى إعادة هيكلة تمنحها مزيدا من الحيوية، وتتيح لها فرصةً كبرى لتقديم تقارير صريحة عن الانتهاكات التي قد تتسبّب بإرباك معاني «الوحدة الوطنية».

كما أن على مجلس الشورى، الذي يضم نخبة المجتمع العربي السعودي، أن يقترح على صاحب القرار مزيداً من الأنظمة والتشريعات الكفيلة بدعم المفاهيم الأساسية التي تتشكلّ منها موادّ «العقد الاجتماعي» في المملكة وبنوده وتعزيزها، ولا بأسَ ولا ضَيْرَ في أن يُراقَب أداء أعضاء المجلس وأعضاء الهيئات المعنية بمسائل الحقوق، وأن يُستبدل بمن لا يستطيع منهم النهوض إلى مستوى التحدّي من هو أكفأ وأكثر حيويةً وحماسةً لهذا المشروع الوطني.

في قناعتي، نعيش حالياً لحظة تاريخية يجب ألّا تمرّ من دون استثمار يحصّن الوطن من داخله، ويجعل من كلّ صُلحاء الوطن شركاء في صيانته وحمايته، وعلينا ألّا نصغي كثيراً إلى الصوت الذي يقول: إن هزيمة الخطاب الطائفي مستحيلة على الصعيد الداخلي؛ لأن الداخل يتأثّر بما يجري في الإقليم. المحاولة في لجم الخطاب الطائفي على مستوى الإقليم أمرٌ محمود، لكن الربط المطلق بين الداخل والإقليم لا يخلو من يأسٍ وعجزٍ وإقرارٍ بقلة الحيلة، وتقليلٍ – ربما غير مقصود – من قيمة المملكة، وتشكيكٍ في قدرتها على صنع القدوة والمثال.

لا أجرؤ على زعم أن الأمر سيكون مجرّد نزهة أو ما يُشبه النزهة، ولا أجرؤ على ادّعاء أن هذه الأهداف السامية يمكن تحقيقها في مدة زمنية قصيرة، لكني أجزم بأن آمالنا الوطنية قابلة للتحقّق إذا توافرت لدينا العزيمة القوية الصادقة، ووظِّفت لتحقيقها كلّ الإمكانيات اللازمة؛ فالأمر كما عبر عنه الكاتب والمسرحي الكبير علي سالم (رحمه الله): الطريق طويل.. لكنه آمن...

* باحث وكاتب سعودي