-A +A
وفاء الرشيد
كيف يمكن أن نعود إلى الوراء؟ كيف يمكن أن يكون كل ما مررنا به من تجارب هو مجرد قشرة لمخزون تراثي راسخ حتى الجذور؟ يستغرب الكثير من المثقفين العرب والمراقبين للساحة العربية كيف استطاعت الظاهرة الأصولية أن تخترق العقل العربي والإسلامي بالرغم من مرورنا بالقومية والليبرالية بل وحتى الماركسية العربية!

قد لا يتداولها الكل، الداعشية انحسرت اليوم ولكنها باقية بيننا... ولا يمكن أن نتجاوز هذه الظاهرة إلا بالمرور فيها، ولن نستطيع أن نبني أممنا إلا إن بنينا فكرنا من جديد، ولن نبنيه إلا إذا قمنا بعملية غربلة عميقة لهذا الموروث التاريخي الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه.


بيئة إقليمية متأزمة ويشتد تأزمها كل يوم بدخول قوة إقليمية غير عربية في قلب تفاعلات الأزمات العربية إيران وتركيا وإسرائيل التي تشكل الخطر الأكبر في المنطقة وأمريكا تراقب الحدث.

ووسط هذا الإقليم المتأزم، نعيش نحن اليوم صراعات عقائدية كبيرة في المنطقة العربية والإسلامية، نعيش تحديات مصيرية تمس عقل وفكر كل واحد ما، ويتعمد البعض غض النظر عنها لالتباس المنظر عليه والبعض الآخر لارتزاقه بها. فالفكر الإسلامي الراهن اليوم أمام مفترق طرق وتحديات كبيرة يلمسها كل مراقب للحال، ويرجع الكثير من الفلاسفة والمؤرخين هذه الأزمة إلى أن الفكر الإسلامي، بعد المرحلة الكلاسيكية، مر بمرحلة جمود امتدت من القرن التاسع ميلادي وحتى القرن الثالث عشر ميلادي (عصر الانحطاط)، حيث حصلت قطيعتان في العهد العثماني؛ واحدة داخلية وأخرى خارجية، وفي وسط هذه الحقبة التاريخية الحاسمة تمت برمجة كل الانسدادات والأزمات والتأزمات الخطيرة التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية اليوم، فتوقف الإنتاج الفكري لقرون وتشكلت الحداثة المادية والفكرية خارجه وهو بمنأى عنها دون أن تتاح لنا المساهمة فيها.. بعكس الأفكار الدينية الأخرى، التي مرت بمرحلة التنوير وقامت بعملية حلحلة للفكر وتفكيكه بإعادة قراءته والوصول لمرحلة التنوير التي غيرت من مصير شعوب هي الرائدة اليوم بنهضتها.

فعندما نشر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت كتابه المشهور «الدين في حدود العقل» في بداية مشروعه الكبير الذي بدأه في نظرية الانتقال من الملة إلى مفهوم الدين الأخلاقي وروج خلالها للعقل الألماني أن الدين المسيحي أخلاق قبل أن يكون ملة بتفكيك معتقدات الدين وأخلاقياته في لغة العقل العمومي ليلامس رجل الشارع، ليأتي بعده التنوير السياسي الإنجليزي على يد الفيلسوف الإنجليزي هوبز الذي عمل على مشروع الانتقال من الدولة الدينية إلى الدولة المدنية الحديثة التعاقدية، وما لحقهما من تنوير فلسفي فرنسي على يد فولتير وسارتر ليهتف المتظاهرون بالثورة الفرنسية في يوم من الأيام بأسماء مفكريهم.

السؤال المطروح اليوم من الساسة والشعوب، هو كيف يمكن أن نصلح الفكر أو الإصلاح اللاهوتي العقدي اليوم، وكيف يمكن لنا أن نحارب الظواهر المحيطة بنا والتفاسير الملتبسة؟ هل يمكن أن نعيد فتح المشروع الفكري القديم الذي توقف؟ وما هي عواقب هذا الجمود؟

دعوني أصف المشهد بكل تجرد وواقعية قد يجدها البعض قاسية على العين والسمع، ولكن نحن اليوم نعيش في مرحلة انهيار نفسي ومجتمعي مرتبكة، وسط ضعف تام لكل الوسائط الاجتماعية التي يمكن أن تحتضن الفرد العربي داخل مجتمعه. فالطرق التقليدية مثل القبيلة أو المجموعات الدينية أو المهنية ثم بعدها الوسائط الحديثة التي حاولنا أن نجربها مثل النقابات والأحزاب السياسية العربية هي تلفظ أنفاسها الأخيرة... فماذا نتطلب من هذا الجيل الذي أصبح في وضع كارثي ليس له حاضن اجتماعي لا حديثا ولا تقليديا اليوم؟ الجيل الذي دفعنا ببعضه، أمام هذا الانهيار التام، إلى الرجوع للحاضنة في البنية الثقافية العميقة له وهي الدين، ليأتي القتلة باسم الدين ويقدموا من التراث مواد قاتلة مدمرة ينتقونها من بين صفحات مشرقة يركزون فيها على أدبيات تكفيرية شاذة عن الدين الإسلامي الحنيف وسط جمود تام في الفكر والتنوير لقرون.

ما يشهده العالم العربي اليوم بعد (الربيع العربي) هو تفكك جذري بين الدولة والمجتمع، حيث أصبحت هذه الدول العربية لا تعبر عن هوية المجتمع العربي وهذا التعبير هو الشرط الأساسي لتصبح الدولة هي الإطار الإدماجي للمجتمع داخل وطنه، فنحن اليوم بأمس الحاجة لهندسة مجتمع سياسي يكون قاعدة أساسية للدولة يعيد البناء لحركة تنويرية تفكك النص والفكر وتعيد بناءه.

تمجيدنا وتقديسنا للماضي وتصور الدولة السياسية الإسلامية على ما ليس فيها سيحمل الدين فوق طاقته، وسيفشل أي مشروع قادم لبناء دولة حديثة. الإسلام رسالة سماوية سامية ولم يأتِ كمشروع دولة، وفكرة أن للإسلام تصورا مدنيا للشأن العام هي فكرة روج لها الإخوان المسلمون في ثلاثينات القرن الماضي (الإسلام دين ودولة). وإن بحثنا في كل الموروث الإسلامي فلن نجد فقيها واحدا بين من كتبوا في السياسة الشرعية من الماوردي إلى ابن خلدون يقول إن (الإسلام دين ودولة). فهناك فرق بين التحويل أو التحوير المفهومي الذي استعمله بعض الفقهاء وحولوه إلى قوالب سياسية – قانونية وضيقة وصارمة.

عندما نقحم الدين بالسياسة ندمر الدين وندمر السياسة؛ لأن الدين نتعامل معه بروحانية المطلق، أما السياسة فأمورها نسبية. فالشريعة هي ليست مدونة قوانين بل منظومة قيمية أخلاقية والأساس فيها ليس تنظيم المجتمع تفصيلياً وإنما وضع قواعد كبرى تنظم المجتمع، وتحويل الدين إلى قوانين تدير الدولة هو علمنة ملتبسة، فيكاد يكون من المستحيل بناء دولة مدنية تماشي القرن الواحد والعشرين وسط هذا الجو العام.

كيف يمكن للإنسان أن يصنع وجوده بدلا من أن يرث ثقافته، أن يعيد التساؤل في كل شيء انطلاقا من تجربة حرة!.

WwaaffaaA@