-A +A
عبدالرحمن الثابتي
الأخلاق موجودة وقديمة قدم تطور الإنسان نفسه، حيث سعى الإنسان إلى أن يؤسس لمبادئ تحدد له ما يجب وما لا يجب فعله، ولأن الإنسان كائن اجتماعي يتطور بتطور المجتمع، ولأنه بحاجة إلى تنظيم المعاملات مع الآخر وليتسق مع نفسه ويكون له منطلقاته الخاصة فكانت الأخلاق الضابط الداخلي، وكانت السلطة الضابط الخارجي، ومنها كانت الأخلاق ملازمة للفرد وملازمة للمجتمعات مهما كانت هذه المجتمعات، ومهما اختلف الزمان والمكان ولكنها كائن حي يتطور بتطور الإنسان نفسه، وبتطور المجتمعات، وتنحط بانحطاطها.

ولعلي أذكر هنا جملة وردت في خطاب الملك سلمان في مجلس الشورى، حيث أكد أنه لا مكان لمن يرى الاعتدال انحلالا، وما أفهمه هنا أنه يعيد إحياء مفهوم الأخلاق، حيث يرى ببصيرته المستنيرة أن مفهوم الأخلاق تم اختطافه من قبل التطرف وتمت الوصاية وتكبيل المجتمع والدولة على حد سواء، فعلى سبيل المثال، تم اختزال الفساد في الأمور التي قد لا تتعارض مع الأخلاق فعلا، وأصبح مرادفا لكل فعل فردي أو اجتماعي لا يتناسب مع تفكير المتطرف، كما أن التحديث والتطور أصبح مرادفا للانحلال، وهنا تم تجريد الألفاظ من معانيها الأخلاقية وإقحامها في العقل الجمعي بمعانيها السخيفة وغير الدالة حقيقة على معنى أخلاقي من أجل السيطرة على المجتمع، فكل من يسمع كلمة الانحلال والفساد يتوقف عن الفعل بل وينتقل لمحاربته حتى ولو لم يكن فعلا انحلالا أو له أي بعد أخلاقي، وهذا ما يسمى التبجح الأخلاقي، وهو أن يظن مجموعة من الناس أنهم يحملون النموذج الأخلاقي الأعلى وبه ومنه يطلقون من أجل تحديد ما هو أخلاقي وما ليس بأخلاقي، وبذلك ساهم التطرف في إيقاف عجل الحياة وليس التنمية فقط.


تكمن خطورة هذا الفعل المتطرف في أنه يجعل الأخلاق جامدة والجمود يعني الموت، ولذلك فهم كانوا ينحرون الأخلاق من الوريد إلى الوريد تحت شعار المحافظة على الأخلاق!

ولأن لكل زمان تفسيره للأخلاق ولكل مجتمع فهمه للأخلاق وإن اشتركوا في خطوطه العريضة، ولكن الأخلاق متطورة ومرنة وتتميز بديناميكيتها، رغم ثباتها في المنطلقات والمشتركات الإنسانية، ولذلك كان هذا الخطاب بمثابة إعادة قطار الأخلاق إلى سكة الاعتدال والمشتركات الإنسانية، ومنع التطرف من التخفي تحت عباءة الأخلاق، وحيث إن السلطة لعبت دورا في حماية الأخلاق على مر التاريخ الإنساني من خلال القانون الذي يفرض الأخلاق على من لا يكون لديه النزعة الداخلية للتحلي بها، فقد أعادت الدولة المفاهيم الأخلاقية لقواعدها الصحيحة وجعلت الفساد بمعناه الحقيقي وفكت الارتباط المزيف بين مصطلحات الانحلال والتطور والتحديث والتنمية، وهي بذلك تعيد بعث وإحياء الأخلاق بعد أن قتلها المتطرفون على مدار عشرات السنين.

ما يميز الدولة السعودية الحديثة أن التطور فيها عملية متكاملة، فهي تسعى لتحديث المجتمع وتحديث الدولة وتحديث الاقتصاد وتحديث الإنسان أولا وأخيرا، ولذلك فقد نزعت عن رقاب الأفراد سيوف التطرف، وجعلتهم يتنفسون الأخلاق بمعناها الحقيقي، وأعادت تسمية الأشياء بمسمياتها، وأصبح الاعتدال اعتدالا حقيقيا والفساد فسادا يعرفه القاصي والداني، ولم يعد الفساد موسيقى يسمعها شاب في سيارته، أو في قيادة امرأة لسيارتها أو غيرها من ما أوهم المتطرفون به المجتمع بأنه جريمة أخلاقية، كما أعاد للفرد اعتباره، وجعل فضيلة الاختيار فوق كل الفضائل، وأصبحت الدولة الراعي الحقيقي للأخلاق وللتطور دون مكبلات ومعوقات وهمية تمارس التبجح الأخلاقي مانحة نفسها المكان الأعلى لتقييم ما هو أخلاقي وما ليس بأخلاقي، ممارسة الوصاية على الفرد والمجتمع والدولة ومهدرة للثروة وللوقت ولكرامة الفرد والمجتمع، ولذلك أقول بأن هذا العهد سيذكره التاريخ الحديث، وسيذكر هذا التطور الذي يسير بسرعة لا تضاهى على جميع الأصعدة.