-A +A
فؤاد مصطفى عزب
ذهبت إلى حي قديم لزيارة صديق بعد صلاة الجمعة، ظل في هذا الحي منذ مولده وحتى تقاعده.. أتأمل المكان لا زال يشبه نفسه قبل عام.. لا شيء تغير.. بضعة وجوه جديدة فقط، كان يرافقني صديق مشترك كان يعمل مديراً لمدرسة ابتدائية.. الشارع في الخارج أصبح ضيقاً أكثر، هكذا بدا لي بفعل اصطفاف العربات القديمة على الجانبين.. وجدت مكاناً بالكاد لعربتي.. طفل رث المظهر يقترب منا، أشعر بنظراته تتبعنا ولسانه يقول كلمات أفهمها يمنحنا ابتسامة تليق بنا.. والدته تفترش الأرض كأنها حجر.. كأنها أصص خال من زهر.. كأنها لا أحد.. لا شيء يقيها من شمس الظهيرة.. لا حاجة لأن أفهم ابتسامة الطفل.. وضعت ورقة نقدية في يده، ردد بعض الأدعية ووضع الورقة النقدية في جيب قميصه الأسود.. الكثير مروا بالأم، لم أعد قادراً على العد لم يتوقف أحد ويضع شيئاً في يدها.. لوحت لي العجوز مبتسمة.. فرحت أنني منحتها ابتسامة سترافقها إلى منزلها.. شعرت ببحر من البكاء يموج في داخلي، لا شاطئ ينتهي إليه ذلك البحر! قلت لصديقي قليلا ما نعطي.. نظر إلي نظرة بلهاء وفغر فاه مجيباً..لا أفهم ما تقصد! أقصد أن ما نعطيه الفقراء قليل فهو دون الكفاف.. إننا لا نعطي كفاية مقارنة بما نملك.. هز رأسه باستنكار ثم قال لي أنت مخطئ يا دكتور، أنا أرى العكس أنكم تعطون من لا يستحق، تعطون الشحاذين والمتسولين أكثر من حاجتهم، ليس الفقير هو الذي يقف في المنعطف ماداً يده إلى السابلة، يتظاهر بالشقاء استدراراً لرحمتهم، هؤلاء لا يستحقون الشفقة والإحسان، وإنما الذين يستحقون عطفنا ومؤازرتنا هم أولئك الفقراء المستورون المتعففون، الذين يحول حياؤهم دون الاستعطاء.. تحسبهم أغنياء من التعفف وهم يبيتون مع أطفالهم على الطوى في أماكنهم البالية، ويفضلون الموت ألف مرة على ذل السؤال، هؤلاء يا أبا فراس هم الجديرون بالبر والإحسان.. لا أولئك المتسولون المحترفون، قد أستعرض لك الكثيرين الذين أعرفهم وأعرف أماكنهم من المتسولين المحترفين، بينهم ذلك الأعمى المتعامي ما إن تنقده الريال حتى إذا ما ابتعدت فتح عينه بعدها ثم يلقيها في جرابه، وذلك الكسيح يمد رجله إلى الرصيف ويشحذ عليها حتى إذا ما أقبل الظلام هرع إلى منزله كالغزال.. ثم أكمل، تعرفت مرة وبحكم طبيعة عملي على طفلين فقدا والدهما وأصبحا يتيمين، نضب المال من بين أيديهما، مثلما تجف مياه المستنقعات في الشمس، فقيران من حيث الشكل إنما الواقع لا شيء من ذلك.. وتبنيت حالة تلك الأسرة، ذهبت لأحد الأغنياء وشرحت له وضع الأسرة البائسة، هز كتفه متأسفاً ثم قال لي يا أستاذ في الدنيا بؤس كثير ولا يكفي العباد إلا رب العباد.. وقصدت قماشاً له سلسلة متاجر عديدة، وأخبرته بما أخبرت الذي قبله عله يكسو الطفلين، ليجيبني ليت الأحوال على ما يرام يا أخي، أنا أشكو ضائقة مالية عصيبة لا تغرنك المظاهر، وانتهى بي المطاف مرة إلى صاحب مستشفى، والذي أبدى أهتماماً عظيماً ثم قال لي، من عادتي أن أوزع الزكاة في رمضان، وسأخص هذه الأسرة بما تيسر في العام القادم إن شاء الله، وبعد أيام معدودات زارني صديق مدرس في إحدى المدارس الحكومية، وقصصت عليه ما مررت به وقادني الحديث إلى وصف الحالة البائسة والوضع الصعب التي تمر به الأسرة، فإذا به يُخرج منديله ويمسح دمعاً يترقرق في عينه ثم ودعني منصرفاً.. في اليوم التالي استوقفني حارس المدرسة وناولني مظروفاً مغلقاً وقال لي هذا من صديقك، فضضت المظروف وإذا بي أقرأ..

عزيزي.. لقد أثر بي ما قصصت علي بالأمس عن حال تلك الأسرة المعدمة.. فهل لك أن تنوب عني بتقديم هذه الألف ريال المرسلة طيه تخفيفا عنهم، راجياً كتمان اسمي وقبول معذرتي لضآلة المبلغ فهذا جهد المقل.. فعلاً لا يقدر البؤس إلا البائسون..


fouad5azab@gmail.com