-A +A
أحمد عجب
قبل ثلاث سنوات تقريباً، كنت أقف أمام مكتب حجز المواعيد بأحد المستشفيات الكبرى بجدة، وفجأة احتدم النقاش بين موظف واثنين من زملائه، ثم تطور الوضع بينهما للتشابك بالأيدي، وحين تدخلت ومن معي لفض النزاع، ظهر ذلك الموظف هادئاً وواثقاً من نفسه ولا توجد في طرف لسانه سوى كلمة واحدة (إذا فيكم رجال يطلع لي برا) فيما كان زميلاه حذرين ومتشنجين وفي حالة شبه هيستيرية وهما يصرخان بلهجتهما الجـداوية (بدوي معفن.. من جينا للعمل هنا وأنت مقرفنا بعيشتنا، كل يوم مشكلة، واحنا سكتنا لك بمـا فيه الكفايــة)!

طبعاً استدعينا الأمن بعد ذلك، وتمت إحالتهم للدائرة القانونية للتحقيق معهم، وبينما كنت أقف على (الكاونتر) منتظراً، سمعت بعضاً من الحديث المتداول بين بقية زملائهم، حيث كانوا يؤكدون بأن المشادات بين هؤلاء الثلاثة شبه يومية، وقد لفت انتباهي أن بعضهم كان يبرئ ساحة الزميلين ويلوم الموظف بداعي العنصرية، والمفاجأة أن الاثنين لم يتأخرا بالتحقيق حيث نزلا وباشرا عملهما، فيما لم أرَ ذلك الموظف ثانية حتى انتهيت من مراجعتي وغادرت المستشفى!


ما فهمته من واقع خبرتي القانونية أنه ربما تم كف يد الموظف وإيقافه عن العمل تمهيداً لإصدار العقوبة الإدارية عليه، لكن ما لم أفهمه أبداً هو عدم معاقبة الزميلين الآخرين، فهل حكم المحققون كحكم زملائهم (بما يعلمونه) وهو ما يخالف القواعد الشرعية؟! لأنه لو تم الحكم وفق الوقائع والشواهد التي حضرناها فإن الزميلين يدانان بالمخالفة قبل الموظف، إلا إذا كان هناك من يعتبر أن لفظ (بدوي معفن) كلمة عابرة ولا تحمل أي معنى للتمييز أو العنصرية فهذه والله مصيبة؛ لأنهم بذلك كمن يحمي السائبة من الخطر ويترك غزلان المحمية فريسة سهلة لتنهشها الضباع البرية!

الموظف كما أسلفت كان مقلاً في الكلام، ولم يكن كغيره سليط لسان، وإذا أردنا أن نصدر قانوناً لمكافحة العنصرية، فإن أول ما يجب علينا فعله هو وضع تعريف محدد لها، فالشخص الذي يصف الآخر بلونه مثل أبيض أو أسود، سعودي أو مقيم، ذي جنسية أصلية أو مكتسبة، بدوي أو حضري، سني أو شيعي، فهو هنا لم يرتكب جريمة التفرقة العرقية أو الطائفية، وإنما سمى الأسماء بمسمياتها، العنصرية لا تكون إلا حين نضع صفة وضيعة تتبع الوصف يراد منها الإساءة للآخرين أو تقزيمهم، أما الحماية من العنصرية فهي لا تكون عادلة ومنصفة إلا حين تنطلق من مبدأ حماية المواطن قبل غيره.

العنصرية أيضاً قد تنسحب على الأفعال والمواقف، فالاستئثار لفئة معينة بالوظائف والترقيات، والمطالبة بتجنيس الأجانب ثم المطالبة بعدها من نفس الشخص بتحديد نسل السعوديين، هي ممارسة تحتاج إلى كبح ومواجهة حتى لا (تتأصل) فيظن الغريب في نفسه أنه صاحب الدار!