-A +A
يحيى الامير
فشلت ثورات (الربيع العربي) واستعادت تونس والقاهرة كثيرا مما كادت تخسره خلال تلك الأحداث، بينما غرقت سوريا وليبيا، وتدخل التحالف العربي لاستعادة الشرعية من أجل اليمن.

فكرة الثورة في الثقافة العربية فكرة رومانسية ومثالية وحماسية للغاية، والمخزون الثقافي والأدبي عن الثورات قادم من الثورات التي جابهت الاستعمار، كانت ثورات حميدة رغم ما شابها من أخطاء وأفرزت لغة خطابية ثائرة فيها شيء من الواقعية وكثير من الشعر والبلاغة.


انتقلت تلك اللغة بالكامل إلى أزمنة الانقلابات، وشهدت تلك الفترة أسوأ توظيف واستخدام لمفردات الوطنية والخيانة والفداء والكرامة، ومع كل انقلاب يصبح الانقلابي وطنيا حرا شريفا والمنقلب عليه عميلا خائنا متآمرا.

تشكل إذن ذلك القاموس وتوارى في ذاكرة الثقافة إلى أن تمت استعادته مطالع العام ٢٠١١ مع تغييرات طفيفة، فلم يعد الخطاب في المنابر والإذاعات وإنما بات على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. وأكثر ما ظل يتردد من أن تلك الثورات ثورات شابة وأن جيلا شابا يقود الشارع نحو التغيير والحريات والديمقراطية كان حديثا بلاغيا عاطفيا، وكان الواقع يكذبه يوميا، حتى منصات التواصل الاجتماعي التي كان لها دور في ذلك الحراك كانت مجرد وسائل جديدة حُمّلت ذلك الخطاب القديم، ولم تشهد تلك الثورات إعلان ظهور وعي جديد أو لغة جديد، وحتى شباب الميادين الذين أحرقوا الإطارات وواجهوا (القمع)، كانوا شبابا في ملامحهم وأعمارهم بينما تمتلئ أدمغتهم بوعي قديم ولغة قديمة وحماس غير واقعي وحال من الاستلاب الثوري والنشوة التي لم تنتج شيئا.

الدولة الوطنية في مصر وفِي تونس على مستوى الوعي العام أكثر تجذرا منها في سوريا واليمن وبالطبع في ليبيا، ولذلك استطاعت هاتان الدولتان الخروج من أيام الرعب والفوضى بينما غرقت غيرهما، الجيش في مصر وفي تونس كان أكثر وطنية منه في بقية بلدان الفوضى، لم يكن ابن الرئيس أو أخوه أو صهره هو المسؤول عن الجيش، والفساد الذي كان هناك شمل مؤسسات كثيرة منها المؤسسة الأمنية، ولكنه لم يتحكم تماما في مؤسسات الجيش، مما مكنه أن يقوم بدور وطني في تلك الأحداث، وبطبيعة الحال ففي ليبيا أو سوريا أو حتى اليمن لم يكن الجيش مؤسسة وطنية، لذلك أصبح جزءا من الأزمة. (في سوريا وليبيا النظام بالكامل ليس وطنيا على الإطلاق وهو ما يفسر جانبا من الواقع الذي انتهت إليه).

تحمي الجيوش الوطنية أوطانها ولديها تعريف واحد للعدوان وللواجب الوطني، بينما للمؤسسات الأمنية في بلدان الثورات تعريفها الذي يرتبط غالبا بشكل النظام ومدى بقائه في السلطة، لذا لم تكن المؤسسات الأمنية وطنية كما يجب، وهو ما جعلها تستميت في حماية النظام أكثر من حرصها على حماية الدولة الوطنية (وزراء داخلية بعض بلدان الثورات دخلوا للسجن بينما لم يدخل أحد من الجيش)، وهو ما أحدث مواجهات بين الجهازين.

لم تبلغ الثقافة العربية ذلك الواقع الذي يجعل من الثورات تحولا إيجابيا في مسيرتها، ولم يكتمل الوعي الوطني والوعي بالدولة الوطنية إلى اللحظة التي تصبح الثورة عطاء وخيرا لتلك الأوطان بدل أن تصبح وبالا عليها، بل يمكن القول إن الثورات التقليدية باتت أسلوبا قديما في التغيير وصناعة التحولات، ناهيك عن أن تقوم في أوساط تقليدية وأقل مدنية، ولعل أسوأ مؤشر لعدم إمكانية نجاح الثورات ذلك الانفجار الغريب لكوامن التخلف والنعرات من مذهبية وعرقية وطائفية وكيف طفت فجأة على السطح بعد أن ظلت كامنة بسبب هيمنة المؤسسات والنظام الذي رغم سيئاته الواسعة إلا أنه ظل حاميا للمعنى الكبير لفكرة الدولة وليست الطائفة ولا الجماعة.

ما أسهل أن تسمع رأيا يقول لك بأن التدخلات الخارجية هي التي أفشلت ثورات الربيع العربي الحالم، لأنه يمكن القول ببساطة إن التدخلات الخارجية هي التي أدت لقيامها أصلا.