-A +A
فؤاد مصطفى عزب
من اللحظة التي نستيقظ فيها كل صباح إلى الوقت الذي نعود فيه إلى مخادعنا ننتقل من مكان إلى آخر.. نحمل معنا أشياء نعتقد أننا لا نستطيع التخلي عنها.. مستندات.. هواتف محمولة.. آيباد.. كمبيوتر شخصي.. شاحن لكل جهاز.. نحمل حقائب على أكتافنا وأخرى في جيوبنا وسلسلة مفاتيح كثيرة قد لا نحتاج منها سوى على مفتاح أو اثنين لا أكثر.. نحرص على ملء هواتفنا بالعديد من تطبيقات المهمات كي ننجز أعمالنا اليومية وكي نشعر بالرضى عن إنتاجنا.. ثم نترك أماكن أعمالنا بعد انقضاء يوم عمل مرهق شاق، ممنين النفس بقضاء أمسية تليق بكل ذلك التعب.. نوع من الهروب إلى الفردوس.. ننتقل بأجسادنا المثقلة بالقلق والهواجس والخوف والأحلام والأمنيات والتوقعات والطموح نفر بها إلى مكان يشعرنا بشيء من الراحة الجسدية والنفسية.. لعلنا نجد في هذا المكان الشبكة التي تنقذنا في الأسفل إن سقطنا من تعب لهاثنا اليومي من على حبل الحياة الرفيع المعلق.. أفعل ذلك مثل بقية الجياد البشرية في أحياناً كثيرة.. كمن يطوي خيمة ويقفز إلى قطار وبيداء حياة جديدة في مدينة أخرى هرباً من الوجع اليومي.. وأنت تمضي بعربتك للمكان الذي اخترته تعدل المرآة الجانبية للعربة، تتمنى أن تلمع عيناك وأنت على الطريق ببارقة أمل أن تحظى بأمسية مفتوحة على مساء أكثر انفساحاً.. أمسية قد تكون مضاداً حيوياً يمنع تفاقم الروح وما تركت فيك عواصف الوقت من أخاديد.. مسافة مفتوحة على مروج البوح الأبيض وسهول المسرة.. تمارس كينونتك فيها كبشر بجمال وتعيد لنفسك صفاءها ولروحك طموحها وتوقعاتها ولقلبك أحلامه.. إلا أنه أحياناً تحس ما أن تصل المكان والذي سعيت إليه طلباً للبهجة بأن نقطة خاطئة من الزمن جعلتك تلتقي وأنت شاب في مقتبل العمر بامرأة مسنة في نهاية حياتها وتحاول أن تقنع نفسك أنكما تنتميان إلى بعضكما البعض.. جلسة تعج باليأس والمعاناة والإحباط واجترار الماضي يتزايد فيها «الاندروفين» وتنخفض فيها هرمونات البهجة والسعادة.. مجموعة متشائمة من أولئك الذين إن قلت لهم ستتجاوز هذه البلد المشكلة.. يرد عليك أحد المصابين «بالشينروفرينا» من الحضور، وهو من يفترض أن يكمل حياته في مستشفى الأمل لكن بعض هذه المصحات عندما تصاب بعجز في الأسرة المتاحة تطلق بعض رعاياها بحجة أنهم لا يشكلون خطرا على أحد ليجيبك على الفور.. وماذا لو لم تتجاوزها!! أو يتحدث أحدهم كيف حضر حفل زفاف بالأمس وهو يفكر أن العروسين سيتطلقان في أقل من سنة.. مجموعة أغلب أفرادها لا يملكون سوى النظر إلى صورهم القديمة دائماً لأنهم يعتقدون بأن أفضل أيامهم أصبحت وراءهم.. كنت أقضي وقتاً مريعاً معهم وأنا أستمع لهم يسرفون في تذكر أشياء امتلكوها ذات يوم وغادرت.. يعيشون مع أشباح الماضي أكثر من اللازم يذكرونك بالمصريين القدماء الذين يحنطون قططهم المفضلة لتدفن معهم.. جلسة كلما امتدت تزداد ضيقاً واختناقاً.. خندق فكري يزداد الوقت فيه بالبلادة والثقل ويصبح الحديث دملا ينمو على ضفاف القلب.. كنت أردد سأكون غبياً لو فكرت أن أستمر في تغير مجرى الحديث أو إضافة أي جديد للنقاش العثماني المتعاقب، فمن العبث أن تهدي لأحدهم فواصل كتاب وهو لا يقرأ أصلاً.. قررت في النهاية أن أصوم عن الكلام وأبتسم للجميع في عبط وأنغلق على ذاتي كصدفة مخمرة وأكتفي بتعطير المجلس ببرفان دخان غليوني متحسساً برواق توترات تتجمع منتهية للاشتعال في حنايا القلب.. وأقضم بأسناني ما تبقى قابلاً للقضم من أظافر يدي متظاهراً بالاستماع.. إنه من المحير والمخجل أن أتحدث عن أمسية ذهبت إليها بمحض إرادتي بهذه الطريقة.. لكنها الحقيقة الوحيدة.. وأنا مضطر لقولها.. لقد كنا مجموعة في بيت واحد.. في مدينة واحدة.. تحت سقف واحد.. منفصلين !