-A +A
فؤاد مصطفى عزب
تتغير طقوس العيد بتغير الزمان والمكان.. اقتصر اليوم الأول من عيد الفطر على مصافحات الأيدي في مكان الصلاة.. واللمعة الفقيرة في عيون الصغار والجملة الرتيبة المتداولة «عيد سعيد» عدت بعدها إلى حديقتي أقضي نهاري وفي مكتبتي أقضي ليلي.. كان اهتمامي في اليوم الأول موزعا بين الزهور والكتب.. مع الزهور أعيش الحاضر ومع الكتب أعيش الماضي.. حينما أذهب إلى مكتبتي يكشف التاريخ لي سره.. فإذا أشرق الصباح شممت من أريجه عطر الورود من جنة عدن.. اليوم التالي قررت السفر إلى نيويورك.. ثلاث مدن تظل في حياتي كقصائد الحب وحكمة الصلصال «جدة» التي تعلمت فيها ارتباك الوداع.. «وكنساس سيتي» التي بدأت لهجتي غريبة فيها ثم استقامت ثم أحببتها لتصبح المكان الذي أخلو فيه إلى نفسي كلما أحس أن هاتفاً من داخلي يتحدث إليّ تتلاشى الأصوات حولي ويرتفع الحنين إليها من الأعماق لأصالح نفسي فيها على نفسي.. و«نيويورك» أغادرها دائماً لأعود إليها.. دون مقدمات.. ها أنا في برودوي مرة أخرى.. إنه أهم شارع للمسارح في العالم كله.. واحد من أهم الأماكن الفنية التي يشد إليها الرجال والنساء والأطفال رحالهم.. لو لم تملك أمريكا غير هذا الشارع لكفاها.. كان أول برودوي في حياتي طفلاً في شارع «الغزة» بـ«مكة» أهم شارع للطفل المكاوي سينما مفتوحة.. مشاهدة جماعية في حياتنا تقريباً.. كان ذلك عند ظهور التلفزيون الأبيض والأسود لأول مرة.. اختفت تلك المشاهدة الجماعية بعد ذلك أصبح في كل قهوة أكثر من تلفزيون وأكثر من قناة.. مازلت أذكر أول ما ظهر التلفزيون الملون وكان باهظ الثمن كيف قرر عم «أسعد» صاحب المقهى المجاور لنا في «شعب عامر» أن يحول جهازه الأبيض والأسود إلى ألوان فوضع ورقاً شفافاً ملوناً على الشاشة نصف أحمر ونصف أخضر شعار لون نادي «الكفاح» المكاوي الذي كنت ألعب له! فكان «بدر كريم» أبو الدكتور أيمن ـ رحمة الله عليه ـ يظهر أخضر لغاية الأنف وأحمر من بعده.. أحياناً نلون الحياة أمعاناً في تذوق حلاوتها أكثر فنفسد محتواها! مررت في طريقي للمسرح بمحل عريض لبيع الحلوى تتعدد فيه الأشكال والنكهات والأصناف.. ذهبت للبعيد وأنا أتناول من البائع بعض حلوى «التوفي» كانت أشهر حلويات ذاك الزمان حلوى «الحلقوم» لايزال طعم مذاقها في طرف لساني.. كان مذاقا متواضعاً قياساً لما جرى على لساني من حلويات بعد ذلك كانت حلوى «الحلقوم» لا تقاس بحلاوة ولذة تلك الأيام المسكرة.. كانت الناس تمشي أمامي باتجاه المسرح.. تتوقف أحياناً لشراء سيديهات أغاني المسرحية والكتيبات والصور والتشيرتات والقبعات والكروت وكل ما يمكن أن تتخيله أو لا تتخيله من هدايا تذكارية.. حركة لا تتوقف مهما تشابكت المسالك.. كل مشهد قد يصلح لأن يكون مسرحية تحكى.. ومن خلال الحكي تتوالد الأطراف والمحيطات كأنها أمواج متتالية تتزاحم داخل الذاكرة التي هي أشبه بطرس ينتظر حبراً ينعش نسوغه لتفضي مكنوناته تخيلاً لا ينتهي عند حد معلوم، فالمسرح ليس مجرد صناعة احترافية فقط للمتعة البصرية في نيويورك وإن كان ذلك إحدى أمنيات الصناع أن يقال عنهم إن مسرحياتهم حازت على ذوق المشاهد.. لكن في الواقع المسرح الذي تقود صناعته مدينة نيويورك يعتبر من أقوى الوسائل التي نجحت أمريكا في توظيفها لتعديل وتوجيه أفكار الشعوب للتأثير عليهم ونشر ما يريدون من أفكار وثقافات بحيث أصبح المسرح والسينما قوة ضاربة لكنها ناعمة جداً.. لذلك فحين تمتلك صناعة التأثير فأنت تستحوذ على عقول كوكب الأرض المنبر وحده لا يكفي أقولها لمن لديهم حساسية مطلقة ضد المسرح والسينما.. «أنا رحت فين؟؟ ومالي ومال الكلام اللي يزعل.. أحنا في عيد!» انتهى بما انتهت به المسرحية.. حيث يأتي «راموس هارت» من باب من المدرج الذي يجلس فيه العازفون فيكون في مواجهة المايسترو وتظهر الفنانة «ليزا شايفلمان» لتنطلق أغنية «مستر سوليفان» والذي يتحول إلى كائن لا يراه أحد مثل ورق السلوفان الشفاف في منظر هو قمة الإبداع المسرحي التكنولوجي وتصدح الكلمات إذا وقف أحدهم في حشد ورفع صوته صائحاً.. ولوح بذراعه وحرك ساقه.. ستلاحظه.. إذا صاح أحدهم وهو في عرض سينمائي لقد شبت النار في الصف الثاني هذا المكان برميل بارود.. ستلاحظه.. الكل يمكن ملاحظته.. بين وقت وآخر إلا إذا كان هذا الشخص غير مرائي وغير محسوس مثلي.. السيلوفان كان يجب أن أسمي السيلوفان.. كان يجب أن يكون أسمي السيد سيلوفان يمكنك النظر من خلالي.. أو السير بجانبي.. دون أن تعلم أنني هناك في نهاية الأغنية يقول.. أرجو ألا أكون أخذت الكثير من وقتكم يعتذر السيد سيلوفان عن الوقت الذي اضطررنا فيه الى الاستماع إليه يقولها وهو خارج من المسرح وبعد أن أصبح ظهره للجمهور ويدوي التصفيق.. أغنية تختم بها مسرحية «شيكاغو» تأخذك الى متعة مكثفة قد تجعلك تبكي.. بل وتبكي كثيراً؛ فالمسرحية تعري الواقع البشع بأجمل الوسائل.. ما أجمل البكاء على صوت له ركن ما في قلبك وعقلك فتغسل روحك وتطهرها من سموم الدنيا.. من صوت الضجيج.. كل عام وأنتم بخير!