-A +A
علي حسن التواتي
alitawati@

الكل يعلم مدى اهتمام ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بزيادة المحتوى الإنتاج المحلي والخدمات بمختلف المجالات. بل إن رفع نسبة هذا المحتوى في قطاع النفط والغاز من ٤٠٪ إلى ٧٥٪ أصبح هدفا رئيسا من أهداف رؤية 2030 بكل ما يتبعه من توظيف للعناصر الوطنية سواء كانت بشرية أو رأسمالية أو موارد طبيعية، وبكل ما يتبعه أيضا من نقل للتكنولوجيا والتطبيقات الصناعية الحديثة ومشاركة للقطاع الخاص وزيادة في نسبة الصادرات بما لا يقل عن 16% بحلول 2030 إن شاء الله.


ولا شك بأن زيارة الرئيس ترمب التاريخية للمملكة العربية السعودية كأول دولة يزورها رئيس أمريكي بعيد دخوله للبيت الأبيض بقليل لدليل على مدى الأهمية التي تعقدها الإدارة الأمريكية على المملكة كدولة محورية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي لإعادة التوازن الإقليمي وتحقيق الأمن الاستقرار والسلم العالمي.

ولذلك حظيت الزيارة بتغطية إعلامية استثنائية لمختلف جوانبها السياسية والأمنية والاستراتيجية وما سيترتب عليها من تحالفات عالمية جديدة قد تتخطى العقائد والتكتلات للتعاون على أسس جديدة من الاحترام المتبادل والاعتراف بأن كافة شعوب الأرض محبة للسلام وتعاني من الإرهاب الأسود المدفوع بمطامع تسلطية ومصلحية لا علاقة لها بدين أو خلق أو جغرافيا.

ولعل الجانب الذي لم يحظ بتغطية كافية في زيارة الرئيس الأمريكي هو الجانب الاقتصادي. فمعظم ما يتردد في الأخبار مجرد أنباء عن صفقات تسليح دفاعي وأمني كبيرة مع المملكة ودول مجلس التعاون بمئات المليارات. وبتجاوز مبالغ الصفقات وتفاصيلها وأهميتها لأمننا الوطني، لا بد أن نهتم أيضا بمردودها على الاقتصاد الوطني. فحتى الصفقات الدفاعية يمكن أن يكون لها مردود إيجابي على الاقتصاد إن أحسنت إدارتها.

وبالرغم من قدم الاهتمام بالتوازن في العقود الدفاعية، إلا أنه أصبح ثابتا لا يقبل المساومة في الآونة الأخيرة. ومع وجود شواهد تاريخية كثيرة على هذا التوازن، إلا أن الصورة الحديثة تبلورت فيما عرف ببرامج التوازن أو (الأف ست offset) التي رأيناها بشكل «غير مباشر» في اتفاق الولايات المتحدة مع ألمانيا الغربية سنة 1961 لتنص على قيام الأخيرة بشراء منتجات أمريكية لا تقل قيمتها عن 80% من تكلفة بقاء القوات الأمريكية في ألمانيا وذلك لتحسين الميزان التجاري الأمريكي. كما رأيناها بشكل «مباشر» في الحصول على رخص إنتاج بعض مكونات السلاح أو الخدمات في البلدان المستوردة. ومن الأمثلة الحديثة حصول تركيا ومصر على بعض الرخص في الإنتاج المحلي لبعض مكونات طائرة إف 16 التي اشترتها أو اشتركت في إنتاجها للبيع لدول أخرى، وكذلك إسبانيا والمملكة المتحدة في إنتاجها لبعض مكونات الطائرة المقاتلة إف 18.

وللتدليل على مدى أهمية برامج التوازن الاقتصادي في عقود التسليح، تقدر بحوث الفايننشال تايمز ومركز جينز للبحوث والدراسات العسكرية قيمتها، مع التحفظ، بما لا يقل عن 75 بليون دولار سنة 2012، مع توقع تزايدها لتصل إلى 500 بليون دولار بنهاية العقد الحالي.

بقي أن نعرف أن بلادنا لم تكن غريبة على برامج التوازن الاقتصادي في عقود التسليح الدفاعية بل إنها السباقة على مستوى الشرق الأوسط منذ أن تبنت وزارة الدفاع والطيران هذا المدخل سنة 1984م. وبحسب معلومات الدكتور عبدالرحمن الزامل فإن «برنامج التوازن الاقتصادي» و«الأوامر السامية التي تؤكد اشتراط المشتريات الحكومية من المنتج المحلي في المشاريع الحكومية» أسهمت بحلول 2014 في إنشاء 6400 مصنع في كافة القطاعات، باستثمارات تعدت 800 مليار ريال، ويعمل بها حوالى 200 ألف عامل..

أما على مستوى «برامج التوازن الاقتصادي» وحدها ففيها 36 شركة تستثمر 20 مليار ريال. ومنها شركة السلام للطائرات التي تقوم بإجراء عمليات الصيانة والعمرة لطائرات ف - 15 تورنيدو والإيواكس بالإضافة إلى الطائرات المدنية وشركة الشرق الأوسط للمحركات وشركة الإلكترونيات المتقدمة التي تصنع أجهزة اتصالات وأنظمة إلكترونية عسكرية ومدنية وشركة الشرق الأوسط للبطاريات التي تنتج للسوق المحلية وتصدر إلى بلدان أخرى.

وقبل الختام، لا بد من التأكيد على أن منظمة التجارة العالمية تمنع عقود التوازن الاقتصادي (الأفست) بدعوى تأثيرها على المنافسة في التجارة العالمية، ولكنها تترك ثغرات كبيرة للالتفاف عليها لدواعي الأمن الوطني. كما أنها تلقى معارضة كبيرة في الولايات المتحدة حدّ أن البعض يعتبرها نوعا من الرشوة للدول المشترية، إضافة إلى أن وزارة التجارة الأمريكية تراقبها عن كثب لتأثيرها على توظيف العمالة والموارد داخل أمريكا –أمريكا أولاً- ولذلك تفرض على عقود المشتريات الأمريكية من دول أجنبية نسبة لا تقل عن 50% من المحتوى المحلي. ولكن بالرغم من كل العقبات تبقى مسألة التوازن (الأفست) ورقة مساومة مهمة في يد الدول المستوردة للسلاح في زيادة المحتوى الوطني من التصنيع والخدمات ووسيلة تطوير تقنية وأداة تنمية اقتصادية لا يستهان بها.

*كاتب ومحلل إستراتيجي

altawati@gmail.com