-A +A
حسين شبكشي
مجددا تنقل لنا الأخبار مقتل «مسلمين» على أيدي «مسلمين» في داخل المساجد، كل فريق يدعي أنه صاحب الحق والحقيقة، وأن من يخالفه مكانه النار، وأن فعلتهم هذه لها ما يبررها من كافة النواحي الشرعية. إنها المأساة بعينها!

لم أكن قد رأيت صديق الطفولة ومراحل الدراسة الأولى منذ سنوات طويلة وخصوصا بعد هجرته وانتقاله للعيش بصورة دائمة في إحدى الدول الأوروبية، وبالصدفة اجتمعنا أنا وهو وابنه الأكبر الذي كان قد تخرج من الجامعة والتحق بالعمل في إحدى المؤسسات المالية. سألني الابن سؤالا صادما ودون مقدمات «هل لا تزال مسلما؟ قلت له نعم الحمد لله، لماذا تسأل؟ قال لي: «لأنني أنا تركت الإسلام بسبب ما أراه ولم أستطع أن أجد الإجابة المقنعة على ما يحث من حولنا». قلت له لم أفهم ماذا قصدك؟ قال لي: «دعني أوضح لك هذا الحجم المهول من العنف الحاصل باسم الدين، هل يعقل أن يكون كله مؤامرة، هل الغرب يتآمر علينا ويؤلف فتاوى وآراء يستخدمها المتطرفون لتحقيق مآربهم أم أن التراث الديني مليء بهذا السم والهراء الذي يوظف جيلا بعد جيل لإنتاج الإرهاب والتطرف والعنف بأسماء مختلفة، ومع ذلك نرى تقاعسا مريبا من علماء الدين لتطهير الدين من السموم، فهم لا يزالون يعتبرون هؤلاء المجرمين فئة ضالة أو إخوانا بغوا علينا وغير ذلك من العبارات المخففة الملطفة لوضع أقل ما يمكن أن يوصف به هو المأساوي، كلها أيام وتخرج مسيرات دموية تضرب فيها السكاكين والخناجر والسيوف على الوجوه والجباه لينزل منها شلالات من الدماء في مشهد سنوي بائس بحجة الحزن على سبط الرسول صلى الله عليه وسلم، والتوعد المتجدد بالانتقام له. كيف يمكن إقناع المسلمين قبل غير المسلمين أن كل هذه المشاهد تتوافق مع مبادئ دين يدعو للرحمة والمحبة والتسامح، هناك شيئ ما غير سوي وهذا كان مدخلي لرفض ما أراه ومراجعة كل ما يتم ترديده أمامي على أنه أساس من الدين والتراث وبدأت في رفض الدين برمته الذي «يقبل» بقاء هذا الكم المهول من العنف والعداء والكراهية في دفات كتب لبشر منحت قداسة لتضعها في صفوة الكتب السماوية مقاما ومنزلة، أنتم تركزون على أعداء المسلمين المنضمين للجماعات الإرهابية المتطرفة مثل القاعدة وحزب الله وداعش وهذا مهم ولا شك ولكنكم تغفلون عن التمعن في الأعداد المتزايدة من المرتدين من أبناء الجيل الثاني والثالث من مسلمي المهجر تحديدا مع عدم إغفال وجود هذه الظاهرة في أوساط أبناء المسلمين في بلاد المسلمين نفسها، أنتم بحاجة ماسة جدا لمراجعة عميقة وأمينة مع ما يحدث داخل الفكر الديني وهذا النهج ليس حالة خاصة بالدين الإسلامي وحده، فلقد مرت بها أديان أخرى من قبل، فعندما تحول اليهود من التمسك بالتوارة إلى التمسك بالتلمود حصلت ولادة للحركة الإصلاحية، وعندما تحول المسيحيون من التمسك بالإنجيل إلى التمسك باللاهوت ولدت حركة الاحتجاج بقيادة القس مارتن لوثر وتلاه كالفين، واليوم يعيش المسلمون نفس المأزق والمتمثل بتركهم للقرآن وتعلقهم بالفقه الذي ما هو إلا نتاج بشري قابل للأخذ والرد، إلا أنه تحول مع الوقت إلى مادة سياسية وعقائدية فتتت الشعوب وتهدد الانتماء إلى الدين نفسه، الفقيه التقليدي بعيد كل البعد عن هوية الدين وروح الخطاب المنشود، ذات يوم كنت أؤمن بعبقرية الرسالة التي كانت تروج لنفسها أنها صالحة لكل زمان ومكان إلا أن التطبيق العملي لهذا الشعار الجميل لا علاقة له بذلك أبدا، فهو في واقع الأمر متوقف زمنيا عند فترة معينة وحصل له الجمود الكبير بعدها. لست وحدي الذي خرج ومن الصعب أن يعود، المسلمون أمام مأساة حقيقية وعميقة، هم بحاجة ماسة لإخراج الشوائب والسموم التي عكرت عليهم الفكر الديني وأصبحت هذه الشوائب والسموم مع مرور الوقت هي المرآة الظاهرة للدين نفسه». نظرت إلى صديقي والد المتحدث وأنا في حالة ذهول مما سمعت، ووجدت في نظرة الأب حسرة وأسى وانكسارا يغني عن التفسير والتعبير، وأدركت في لحظة هول ما سمعت وزاد على صدمتي أن هذا الشاب اقتادني إلى مواقع للتواصل على الشبكة العنكبوتية فيها أعداد غير قليلة من «أمثاله» الذين حصل معهم «الشيء نفسه». قال لي «نصيحة يا عمي، داعش وحزب الله والقاعدة مشكلة مهمة ولا شك ولكنهم جميعا» أعراض «للمرض وليسوا بالمرض نفسه، أمثالي أعدادهم أكبر بكثير من أعداد من انضموا لهم، أفيقوا وأدركوا حجم المأساة». تركته وأنا أسير بإحساس مختلط ممزوج بالخوف والألم والحسرة ولكن باحترام شديد لكل ما ذكر لأن ما ذكره للأسف الشديد كله صحيح.