-A +A
مصطفى النعمان
من اليقين أن آخر أماني اليمنيين اليوم هي كذبة إنتاج طائرة بدون طيار أو خديعة إنشاء محطة قطارات، فهذا ترف لا يعبر عن حقيقة الأوضاع الإنسانية الكارثية التي يعانون منها، ولكن الأمر يضيف مؤشرا جديدا على الخفة التي يتعامل بها المسؤولون مع القضايا الوطنية وكيفية تحويل الأنظار عن القضايا الكبرى واستبدالها بما لا يفيد الناس ولا يعنيهم وهم الذين يعيشون أوضاعا أمنية واقتصادية ومعيشية غاية في السوء.

التقارير شبه اليومية التي توردها وكالات الأنباء عن تزايد معدلات الفقر والمجاعة لم تعد تثير حزنا وغضبا عند السلطات القائمة، بل كأن حالة من التبلد أصابتها أو ربما حالة من اللامبالاة، وصار التنافس بين السلطات منحصرا في المزيد من الجباية غير الشرعية التي لا يعلم أحد مصيرها النهائي في ظل غياب الأجهزة الرقابية، وكنت قد سمعت قصصا من رجال أعمال يواصلون جهودهم لتوفير المواد الغذائية والأدوية إلى داخل الأسواق رغم المعاناة والمتاعب والابتزاز، ولكنهم يشكون من عدم إمكانية استمرار هذا الحال لأن الكلفة غير الشرعية المضافة إلى الأسعار الحقيقية لا تسمح لهم بالبيع، ما سيعرضهم إلى خسائر فادحة، وسيؤدي هذا إلى مضاعفة متاعب المواطنين.


القضايا الحقيقية التي يجب السعي لحلها مثل توفير الغذاء والدواء وتأمين المطارات والموانئ كلها مسؤولية أخلاقية ووطنية على السلطات القائمة، ومن الواجب الحرص على تحييدها من الصراع لأن الثمن الباهظ يتجرعه منفردا المواطن البسيط ولا يتحمله المسؤولون؛ لأنهم قادرون علـى تأمين تنقلاتهم بسهولة ويسر دون الحاجة إلى المرور بمتاعب الانتقال من مدن بعيدة وعبر طرقات وعرة ونقاط تفتيش غير قانونية متناثرة على امتدادها، وهو أمر لابد سيثير غضب الناس وحنقهم وعدم اقتناعهم بكل ممثلي هذه السلطات.

إن الممارسات غير الأخلاقية والتي لا تقيم وزنا لمشاعر الناس تعزز من ابتعادهم عن اللجوء إلى مؤسسات رسمية مهما كان ضعفها، وهذا بطبيعة الحال سيخلق كيانات موازية أكثر قدرة على التعامل مع احتياجات الناس اليومية ورغبتهم الارتباط بأي شكل من أشكال الدولة أيا كانت الصيغة المعروضة، ويمكن النظر إلـى ما جرى في سورية حتى وقت قريب حين تخلت الدولة عن التزاماتها تجاه مواطنيها ولم تعد تلبي متطلباتهم ثم تركتهم وحيدين في مواجهات غير متوازنة مع الجماعات المتطرفة التي أحكمت قبضتها وبدأت في فرض قوانينها العبثية، ولكن الناس يصبحون غير قادرين على المقاومة لأنهم مقتنعون بعجز الدولة وغيابها وعدم اكتراثها بما يحصل لهم.

الصراع الحالي بين السلطات القائمة يسبب الكثير من المتاعب للناس الذين تفاقمت أزماتهم بعد نقل البنك المركزي دون الاستعدادين الفني والمالي الكافيين للتعامل مع الأوضاع الجديدة ورفع عن كاهل سلطة الانقلاب في صنعاء كامل المسؤولية ولكنه في نفس الوقت لم يؤد الغرض المفترض، فتوقف تسليم المرتبات منذ 6 أشهر وهو أمر يساهم في تقويض ارتباط الناس المعنوي بالدولة التي تعجز عن توفير المرتبات أيا كانت المبررات، كما أن إطلاق بالونات التفاؤل بقرب الحصول على مبالغ ضخمة لدعم البنك المركزي تصبح إضافة إلى رصيد الخفة السياسية التي تتم بها مواجهة الأزمات.

لقد أدمن اليمنيون الاستماع إلى متوالية من المشاريع بدأت بالحديث عن استخدام الطاقة النووية مرورا بخطوط السكك الحديدية ولن تكون الطائرة بدون طيار والصواريخ بعيدة المدى آخرها لأن الأمر مرتبط بمنظومة سياسية وإعلامية أدمنت تزييف الوعي وكتابة الوثائق بالدم، وترى أنها الأنجع للتهرب عن الواجبات الأساسية لأي سلطة وإلهاء الناس في دوامة السخرية من تصرفاتها وإعلاناتها.

* كاتب يمني وسفير سابق