-A +A
فؤاد مصطفى عزب
صديقي المتقاعد لا يملك أي شيء ولا يطالب أبداً بشيء.. كان جل حلمه وثيقة تأمين صحي لا أكثر.. هذا الرجل كان ينبغي أن يموت منذ زمن بعيد لأسباب صحية وأخرى نفسية وبعض منها استفزازية.. صديقي متقاعد مسالم رغم ما أصابه من الكثير من جرائم النكران ومؤامرات الإهمال.. أجمل ما فيه أنه ليس جميلاً إلا في كتمانه القوي على أصعب المصاعب وسكوته الضعيف على كوابيسه دون أن ينطق أو يشكو أو يعتب أو يتساءل أو يحاسب أو يستفسر أو يحارب أو يتنهد أو يبكي أو يتحسر على خسارة العمر الذي مضى منه حتى الآن أكثر من ثلاثة أرباعه وهو مازال يبتسم معنا ويضحك لآخر لحظة من أجل عيوننا ويقول الحقيقة لئلا نخسره ويخسرنا.

كان السكر والضغط والكوليسترول تأكل فيه وتأكل فينا وكان مفلساً، فراتبه التقاعدي ضئيل وكان يحصل على أدويته مني.


كنت أفعل ذلك بمحبة صادقة وقناعة فهذا النموذج من العلاقات لم ينقرض كما يعتقد البعض إنه من صميم الأخلاق أن يساعد الصديق صديقه بما يستطيع، فالعثور على صديق صادق أصعب آلاف المرات من الحصول على سمكة حية في الصحراء في هذا الزمان.

قال لي قبل وفاته بعد أن احتله الخجل وعزة النفس والضيق تمنيت أن أموت مبكراً «يا أبا فراس» على أن أقابل اليوم الذي أحملك فيه تكاليف علاجي، قلت له ممازحاً لماذا تستعجل أمنياتك وأحلامك «يا أبا حسين»، قال لي كان أملي هذا التأمين الصحي الذي يبدو أنني سأكتب في وصيتي أن ينقش على قبري عاش ومات وهو لم يدرك التأمين الصحي، وفعلاً مات صديقي العاشق الحقيقي للحياة والأصدقاء والوطن وبكيت على نفسي قبل أن أبكي عليه فقد قلت وداعاً لنفسي وأنا أقول له وداعاً.. ومضى متقاعد آخر بعد أن عانى من جحود وظلم وإهمال مجتمع عز عليه تقديره بطريقة إنسانية بسيطة ونبيلة تتناسب وما قدمه لهذه الأرض «وثيقة تأمين صحي» ظلت أزمة في طريقها للحل رغم تعاقب الوزراء، مات فعلاً «أبو حسين» ذات صباح رمادي واقفاً سقطت من بين أصابعه شفرة الحلاقة ثم انتهى كل شيء.. تركناه للصدفة أو كما يقولون حتى ينتهي «المستشارون» من الاقتناع بجدوى التأمين الصحي.. أقول بلا غضب ودون أي انفعال «حرام عليكم الناس صبرت كثير في انتظار «التأمين الطبي» ولم يعد في إمكانهم تعاطي مزيد من الصبر».. فالناس قد جفت حلوقها من كثرة الشكوى وباتت أحلامها مؤجلة إلى ما لا نهاية.. ولكن من يستطيع الآن أن يصبر أكثر مما صبر؟؟ لا بد أن يعي وزير الصحة مسؤوليته.. تأمين صحي حقيقي وشامل لجميع فئات المجتمع ولجميع الأمراض بلا استثناء هذا هو الحق الذي أصبح حلماً ثم سراباً ثم وهماً وآن الأوان أن يجد طريقه إلى أرض الواقع بلا تأخير وبدون منّ من أي شخص أو من أي جهة فمحنة المرض محنة قاسية ولا يصح أن نضاعف قسوته وحدته بأن لا يجد الفرد منا أي غطاء تأميني أو دعم صحي فعلي وكافٍ.. فيكفي المريض وأسرته هم البحث عن سرير في وحدة الرعاية المركزة كأنهم يبحثون عن إبرة في كوم قش.

عندما يصل بنا الحال أن يعتبر البعض أن العلاج رفاهية لا يقدرون على الاقتراب منها أو معايشتها ويصبح سعر الدواء صخرة يتحطم عليها الأمل في الشفاء أصبح لا بد من الإسراع في توفير نظام تأمين صحي يحترم آدمية المواطن ويصون له كرامته وإنسانيته.. هذا مشروع بدأه طيب الذكر معالي الدكتور أسامة عبدالمجيد شبكشي واجتاز جميع المراحل النظامية والفنية والإدارية والمالية وأثبت تطبيقه في المرحلة الأولى جدواها ليأتي من يهمش قضايا المواطن الملحة ومشاكله المزمنة فيدخل قضية التأمين الصحي في نفق الدراسات المكلفة.. لقد صبر المواطن بما يكفي ولا بد للإدارة الحالية بوزارة الصحة أن تجعل المواطن يحسن الظن بها.

لقد انتهت فترة تعاطي المسكنات وأصبح التعامل مع هذا الملف بكل شفافية وإزالة المعوقات التي تعطل تطبيق هذا البرنامج أمراً ملحاً وذلك حتى يشعر المواطن الصابر بمن يحس بمعاناته ويسعى لوضع نهاية لها فالتعاطف وحده لا يكفي بل السعي الصادق والجاد من كل أعضاء الوزارة هو الذي يمكن أن يجعل للصبر جدوى وللعطاء معنى.