-A +A
علي حسن التواتي
تابعنا ـ مواطنين ومسؤولين ـ بكل الارتياح والاعتزاز المداهمات البطولية الناجحة التي نفذها الأمن الوقائي في وزارة الداخلية لإجهاض عمليات إرهابية محتملة في عدد من مناطق المملكة بما فيها تلك التي نفذت أخيرا في كل من الرياض وجدة.

ولكن المقلق في المداهمات الثلاث التي نفذت أخيرا أن اثنتين منها نفذتا في مناطق حضرية حديثة نسبيا ما يعني باختصار أن تطورا نوعيا طرأ على أسلوب تمركز الخلايا الإرهابية. فبعد أن كان تواجدهم للتخطيط والتجهيز والتنفيذ مقتصرا على المناطق النائية والوعرة والأرياف والاستراحات والأحياء العشوائية التي تشكل أحزمة فقر مزرية حول المدن وتشكل بقعا سوداء داخلها، رأيناهم يوزعون نشاطاتهم على نطاق أكبر يشمل كافة الأحياء خاصة منها تلك الحديثة الملاصقة للطرق الدائرية والخطوط السريعة. وهذا يعني أنهم أصبحوا أدق تنظيما وأوسع انتشارا وأكثر تركيزا في توزيع الأدوار ليصعبوا على الأمن مهمة تتبعهم وكشفهم والقضاء عليهم. فهم يطورون أساليبهم بالتوازي مع تطور الأجهزة الأمنية.


وبمحاولة التعرف على ملامح الأحياء الجديدة التي أصبحت على خريطة تواجد الإرهابيين نجد أن الحيين اللذين شهدا آخر مداهمتين أمنيتين في الرياض وجدة يشتركان ببعض الملامح الجديرة بالاهتمام. فحي الياسمين في الرياض هو خليط من الفلل والعمائر، ويعتبر من الأحياء الحديثة نسبيا ويتميز بالانفتاح على طريقين سريعين من أهم طرق الرياض أحدهما طريق الملك سلمان الذي ينفتح الحي عليه من الشمال والآخر طريق الملك فهد الذي ينفتح الحي عليه من الغرب. والطريقان يقودان إلى شبكة كبيرة من الطرق الدائرية السريعة وخطوط السفر الطويلة.

أما حي النسيم في جدة فهو أيضا واحد من عشرات الأحياء الحديثة التي شكلت حزاما من كتل العمائر المتراصة جنبا إلى جنب وينفتح من الشرق على طريق الحرمين الدائري الشرقي السريع ومن الغرب على طريق الأمير ماجد الذي أصبح سريعا أيضا ويصل بين الطريقين طريق الملك عبدالله. وتقود هذه الطرق أيضا إلى شبكة كبيرة من الطرق الدائرية السريعة وخطوط السفر الطويلة.

ورغم اختلاف أنماط البناء إلا أنه من الواضح أن الخلايا الإرهابية لم تخترهما عبثا. فكلا الحيين يحدان طريقا سريعا أو أكثر يمكن الاستفادة منها في الدخول والخروج وفي الفرار والنجاة في حالة الهرب والمطاردة. ومن الملامح الأخرى أن الياسمين من أوائل الأحياء التي بنيت على عجل أيام الطفرة الأولى ولم تؤخذ بالاعتبار في بنائه المساحات الفارغة والحدائق المفتوحة ما أدى الى اكتظاظه ورحيل معظم سكانه المستهدفين أصلا إلى مناطق أحدث وحلول أعداد كبيرة من العمالة الأجنبية وغيرها محلهم. أما حي النسيم بجدة فهو أيضا بني على عجل وبدعم غير مباشر من صندوق التنمية العقارية بعد تعديل نظام الصندوق والتشريعات المساندة لتمكين المواطنين من شراء الشقق بدلا من بناء المنازل في ظل احتكار الأراضي ومصادرة حق مدينة جدة بالامتداد الأفقي..

وهكذا نرى أن وصف العشوائيات لم يعد ينطبق على تلك الأحياء الفقيرة غير المخططة فحسب، بل يتعداها أيضا إلى الأحياء الجديدة المخططة التي لم يراع في تخطيطها قابليتها للحياة والاستمرارية بسكانها المستهدفين للعيش فيها، وذلك لعدة أسباب من أهمها إهمال معادلة نسبة عدد السكان لمساحة الأرض أو الوحدة السكنية، وغض الطرف عن كفاية الخدمات وتحسين بيئة الجوار وتوزيع المساحات الفارغة أو الخضراء التي يمكن أن تعتبر (رئة التنفس) لأي مجمع سكني يراد له الاستمرار والحياة.

واليوم، تعلن وزارة الإسكان عما تسميه «منتجات إسكانية» وتتضمّن 280 ألف منتج سكني وتمويلي للتخصيص والتسليم في جميع مناطق المملكة. تلك المنتجات لا يهمني منها سوى القروض التمويلية والأراضي السكنية الجاهزة للبناء. أما «الوحدات السكنية» التي توزع بموجب معايير الدخل والأسرة فستنتهي إلى ما انتهت إليه مشاريع إسكان كثيرة سابقة ما لبثت أن تحولت إلى هاجس أمني مقلق بعد أن هجرها سكانها المستهدفون ليس في بلادنا فحسب، بل في دول أخرى متقدمة كالسويد وفرنسا وأمريكا وبريطانيا وغيرها، وذلك إما لعدم توافقها مع احتياجات المستهدفين المحكومة بموروثات ثقافية واجتماعية معروفة أو لمجرد تصنيفها بمعيار الدخل أو عدد أفراد الأسرة.

ولذلك أرى أن ضغط الحاجة يجب ألا يلهينا عن ضرورة التمسك بالأوليات وأهمها العودة لنظام القروض السكنية وتوفير الأراضي القابلة الجاهزة للبناء ضمن مخططات لا يكون المعيار فيها هو الدخل أو عدد أفراد الأسرة إنما مساحات الأراضي التي يكون منها الصغيرة والمتوسطة والكبيرة بحيث يحتوي الحي الواحد على تنوع ديموغرافي يشمل الأسر الصغيرة والمتوسطة والكبيرة حتى لا تنشأ أحياء تقتصر على ذوي الدخول المرتفعة فقط، وأحياء أخرى يتكوم فيها ذوو الدخل المنخفض وما تلبث أن تتحول إلى (جيتوز) للفقراء..