-A +A
فؤاد مصطفى عزب
عندما كتب الشحرور الأبيض (محمد شكري) الكاتب المغربي الذي تمرد على الجهل والأمية في سن متأخرة عن الجوع والحرمان والقهر واللذة والرعب والتمرد والزبالة نعم كتب عن الزبالة بلغة عارية قاسية صريحة حتى الإيلام وأوضح الفرق بين زبالة الأغنياء والفقراء والمسلمين والمسيحيين وكان أول كاتب عربي يتحدث عن (فلسفة الزبالة) كأحد الفقراء الذين كانوا ينقبون القمامة من أجل الرزق.. والحقيقة التي أقولها اليوم وأنا أشعر بوخز في معدتي وقلبي ثقيل مثل ماء بحيرة راكدة أن غالبية العرب ليس لديهم ثقافة التعامل مع القمامة.. فمنظر أكياس القمامة الملقى خارج الحاويات الفارغة أحياناً وبطريقة فجة يترجم كم نحن مفتقدون لهذا النوع من الثقافة الذي عجز حتى الآن أغلب القائمين على نظافة مدننا عن رؤية ما هو أبعد من أنوفهم في هذا الشأن لتزحف الزبالة على الشوارع وتغطي المدن كالبثور وتشوهها وتصبح طوفانا من الأمراض والأوبئة الفتاكة.. لا شك أن أعظم ما وهب الله الإنسان أن خلق للإنسان عقلاً وعلمه كيف يستخدمه إلا أنه يبدو أن الإحساس بالإرهاق والعجز عن حل أبسط مشاكلنا الحياتية وصل بنا إلى منتهاه فنسينا كيف نستخدم عقولنا لحل أبسط مشاكلنا وأصبح التبلد سمة نتمسك بها ونعيش داخل قوقعتها.. ينتابني هذا الشعور كل يوم ثلاثاء عندما أكون في منزلي في (كنساس) وأنا أتامل الأمريكان يسحبون صناديق القمامة الأنيقة النظيفة ذات الغطاءين الأصفر والأخضر حيث يحدد كل لون نوع الزبالة التي تلقى في كل حاوية والموزعة من قبل شركة النظافة المشرفة على تجميع القمامة وبشكل أسبوعي.. الصفراء للفوارغ المتمثلة في الكانزات والبرطمانات البلاستيكية والقوارير الزجاجية والكراتين الفارغة بمختلف سماكتها وأحجامها على أن يتم شطفها وتقطيع الكراتين لأجزاء صغيرة قبل إلقائها في صندوق الفوارغ.. والخضراء للقمامة العادية الخاصة بالاستخدام اليومي على أن يتم وضعها في أكياس بلاستيكية سميكة محكمة الإغلاق والويل كل الويل لمن يخرج عن هذه المنظومة فسلوك الناس هناك محسوب وهذا سبب الانضباط الشديد.. لا اجتهاد مع النظام.. وبالتالي لا ترهل في الخدمات.. لتأتي بعد ذلك سيارات النظافة ذات الإمكانيات الجيدة وفي مواعيد منتظمة لرفع المخلفات كل على حدة وليعاد تدوير الفوارغ إلى منتج نهائي يستفيد منه المواطنون.. ينطبق هذا النظام على المدارس والمستشفيات والمحلات التجارية عملية مقننة منظمة كان بالإمكان نسخها بالكامل كما هي إلا أن ما حصل أننا غرقنا في نهر الرتابة ومقاومة التغير وتُهنا في أمور كثيرة أعقد من موضوع استثمار الزبالة كمنتج نهائي يستفيد منه المواطنون.. ولتصبح بيوتنا نظيفة وشوارعنا قذرة وكأننا نقول إن ما نملكه نحرص عليه وما عدا ذلك ليكن قذراً.. معترفين أن شوارعنا ليست ملكا لنا وهذا اليقين يحدث عندما يغيب العقل عن إدراك معنى الحياة ولا ترى العينان الأفق في استدارته والطريق الذي تتقدم فيه الأمم.. وكان نتيجة لذلك أن احتقرنا مهنة عامل النظافة وأصبح عامل النظافة إنسانا منطويا مهزوما.. لا أحس بوطأة الحياة مثلما أشعر بها وأنا أمر بأحدهم وهو يتسول نتيجة تقاعس شركات النظافة عن دفع مرتبه النحيل منظر يسمم روحي ويجعلني أحاول أن أغوص في داخل ذلك الكيان أفتش في حزنه القاتم المترسب.. أتأمل البشر الذين ينظرون إليه كنوع آخر أدنى غافلين عن أهم شخصية برزت في القرن العشرين تفتخر بآثار ورائحة القمامة على يديه (لي ميونج باك) رئيس كوريا الجنوبية السابق الذي كان يعمل في جمع القمامة يدوياً لينفق على تعليمه.. الرجل الذي حول شركة (هيوندا) إلى أكبر الشركات العالمية بعد أن ضاعف رأسمالها في خمسة أعوام ثم ليصبح رئيساً لكوريا كأصغر رئيس دولة في العالم قال في محاضرته في جامعة قابوس (لم تمْحُ الرئاسة آثار ورائحة القمامة من يدي وهذا أكثر ما أفخر به الآن) قد يسألني قارئ وما الذي دفعك اليوم أن تكتب عن الزبالة وأنت الغارق حتى عنقك في الكتابات الإنسانية.. وأجيبه لقد فعلت ذلك بعد أن تلقيت من قارئ عبارة يسخر فيها مني عن موضوع إنساني كتبته فوجدت أن الحديث عن الزبالة أمر حتمي ومطمئن ومختلف ويليق بما نحن فيه من محاولات ترشيدية.. في طوكيو يقول الراديو أحياناً للناس (الزموا بيوتكم لا تلعبوا الرياضة اليوم، اقتصدوا في استنشاق الهواء) ذلك لأن هناك أزمة في الهواء بالنسبة لكثافة السكان.. يبدو أننا نعاني من أزمة في تقبل المواضيع والأطروحات الإنسانية لذا وجب التغير (للزبالة) ولعلي أكون بذلك أرضيت جميع الأذواق!.