-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أترك المنزل والشمس لا تزال عالية خجولة.. قرص فضي كبير تتعلق به عيناي.. فيروز تهمس في أذني ((حبيتك في الصيف.. حبيتك في الشتى)) الوادي الفسيح على يميني يبدو ناعسا متلذذا.. أشعة الشمس دافئة متخلية عن غضبها الصيفي، والجبال البعيدة شامخة بكبرياء مترفعة عن حياة مخلوقات تدب على الأرض، دائما نظري يتعلق بقمم الجبال لأنها تعطيني الشعور أن كل شيء تحتك يصبح ضئيلا صغيرا كلما ارتفعت وترفعت.. أصل المدرسة التي يتعلم فيها حفيدي ((آدم)) مبكرا، أنتظره في العربة أمام باب المدرسة لأصطحبه للبيت، بيننا اتفاق سرمدي أن لا يستقل الأتوبيس مع زملائه في آخر يوم من الأسبوع، حيث نكمل ما تبقى من اليوم معا، أقرأ في سيارتي قصة وأنا أنتظره قصة سأسردها عليكم.. كنت أقراؤها وأنا أحس بغيبوبة جميلة تشبه الانخطاف، كنت أقراؤها ونسيم عليل كان يدغدغني من فتحة نافذة العربة، نشوة خفيفة أعمق من تلك التي يخلقها ((البثادين)) في الوريد، ينطلق من بين حشد الأطفال نحوي، ما إن لمحني حتى هرع إلي راكضا بقوة الشوق ((للجد)) الذي يعني له حضن العالم الدافئ غير مبال بما يتساقط من حقيبته التي يحملها على ظهره، أقول له دعني أحمل الحقيبة عنك يجيبني لا تنزعج ((يا جدي))، أحس بنشوة من كلمة ((جدي))، أطفال يتتابعون من مبنى المدرسة يتمسحون بجسد الأم بهوى كوني تمنيت لو كنت أحد أولئك الأطفال وأن أتمسح بجلباب أمي، منظر أكبر من هوى الشعر وأوسع من غريزة الحياة.. أبدأ يومي معه، أسعد لحظات اليوم حين نتناول الغداء معا في المطعم المجاور للمدرسة، أتأمله يأكل بشهية بعد يوم دراسي حافل، نعود إلى المنزل يثبت شاشة التلفزيون على محطته المفضلة، أتبعه أجلس على الأرض بجواره أفك رباط حذائه الرياضي وأنزع جواربه الرطبة، أمسك قدميه أشم رائحة الطهر فيهما وأقبلهما، أرغب في أن أغسلهما بدموعي، أسبوع وسأتركه من جديد وسيفصلني عنه بلدان ومحيط وبحار.. أعود للقصة التي كنت أقراؤها والتي تبدأ بقول جميل ((إن الحياة مثل القهوة بالرغم من مرارتها لكنها حلوة)). تقول القصة ((إن مجموعة من خريجي إحدى الجامعات التقوا يوما في منزل أستاذهم بعد سنوات طويلة من مغادرتهم مقاعد الدراسة وأصبح لكل منهم وضعه الخاص، فمنهم من وصل إلى أعلى المراتب الوظيفية ومنهم من حقق حلمه الطفولي، لكنهم كانوا جميعا متأففين من ضغوط الحياة والعمل، وهنا غاب عنهم أستاذهم لبرهة وعاد بعدها يحمل إبريقا من القهوة وعدة فناجين بأشكال مختلفة منها الأكواب الصينية الفاخرة والزجاجية العادية والبلاستيكية والأكواب الورقية، وطلب منهم أن يختاروا المناسب لكل منهم ليصب فيها قهوته، واختار الجميع الفناجين الغالية الثمن والذهبية التطعيم وتركوا الباقي.. هنا قال لهم أستاذهم لقد اخترتم الأكواب الغالية وتركتم ما دونها وهذا شيء طبيعي في الحياة أن يتطلع الإنسان إلى الشيء الجميل وهذا ما يسبب لكم القلق والتوتر.. إن ما كنتم تحتاجون إليه هو القهوة وليست الفناجين إلا أنكم تهافتم على الفناجين الجميلة وكان كل منكم يراقب الفنجان الذي بيد الآخر، وهذا ما يحدث دائما نعتقد أن حياة الآخرين هي أفضل من حياتنا!! والآخرون يعتقدون أن حياتنا أفضل، كل ذلك لأننا نفتقد إلى القناعة. وأضاف الأستاذ: يا أبنائي لو كانت الحياة هي القهوة فإن الوظيفة والمال والمكانة الاجتماعية هي الأكواب، إنها مجرد أدوات ومواعين تحوي الحياة.. والحياة ((القهوة)) تبقى دون أن تتغير، ونحن عندما نركز فقط على الأكواب فإننا نفقد فرصة الاستمتاع بنكهة القهوة، وبالتالي أنصحكم بعدم الاهتمام بالأكواب والفنجاين، عليكم بالاستمتاع بنكهة القهوة)).. عرقت يدي وأنا أتابع القصة.. أدراك قاس اعتراني وأنا أنتهي من القصة متسائلا: فعلا لماذا أصبحت الوجوه أكثر عبوسا.. أكثر تعبا.. أكثر شرودا..الزمن عبث بالوجوه التي هجرها الفرح والتفاؤل، تلك المساحة الجميلة من السعادة اختفت، كأن فرشاة رسام قد عاثت بالوجوه.. تغيرت الأفكار لدى الكثيرين ممن عرفتهم عن معنى الحياة.. ضاعف ذلك التغير من صعوبة الحياة على فئات المجتمع خاصة من عاش في هذا البلد الجميل وذاق حلاوة البدايات، فعلا القصة فلسفة عميقة لمعنى الحياة التي لا استقرار فيها.. حياة مثل بيت الإيجار ليست ملكا نسكنه فترة وما نلبث أن نتركه لبيت آخر.. المستقر الأبدي!!