-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أصحو من نومي وأول خيوط الفجر قد بدأت في التسلل، أتمعن في جمال الفجر في مثل هذا الوقت، أخرج إلى الشرفة، رائحة البحر تتسلل إلى ذرات نفسي ترد إلي روحي.. كانت الشمس قد بزغت من مكانها بدلال تستطلع المكان وتغسل كل شيء حتى نفسي.. قررت أن أخصص هذا السبت لنفسي علني أحظى براحة البال.. توضأت وأحضرت سجادتي واتجهت للقبلة مؤدياً الصلاة ثم استويت جالساً مسبحاً مستغفراً مشاركاً طيور الفجر تسبيحها وتهاليلها، أدير وجهي باتجاه الشرق منتظراً بزوغ الفجر كاملاً.. روائح انبلاج الفجر من شرفتي رائحة ما زرعته في حديقتي الصغيرة كأن هذه النباتات لا تبوح بسر رائحتها سوى فجر عندما يعانقها ندى الصباح.. برودة حانية تلفني تتسلل إلى نفسي.. طيور الفجر بدأت أصواتها تتعالى وتتكاثف أكثر تبعث الحياة من جديد في المكان الذي كان متسربلاً بالصمت.. ترانيم صباحية فهذه المخلوقات مسبحة دون تراخٍ للخالق القدير مثل غيرها من الكائنات.. فقط في هذا الصباح يمكن للإنسان التأمل براحة بال، هذا التواصل بين السماء والأرض والبحر لا ينقطع، أشعر براحة لا مثيل لها، هذه الراحة لم أحظ بها منذ زمن.. لقد أخذتني الحياة بعيداً عن لحظة صفاء.. أدلف إلى الداخل قهوة الصباح تتطاير الأبخرة منها، والخبز المحمص، ونكهة الغليون، شعور بالانتشاء والرقة دبيب حميم يسري في عروقي، أتناول (الآيباد) لأقرأ (الصحف) خبر يتربع صدر إحدى الجرائد «فتح شوارع اعتدى عليها رجل أعمال شهير منذ 35 عاماً».. خبر آخر «أحبطت بلدية جنوب جدة محاولة استيلاء رجل أعمال على نحو 19 مليون متر».. أخبار عفنة؛ فالتعدي وسرقة الأراضي أصبحت عفونتها أسوأ من رائحة بهيمة دهست على طريق صحراوي.. يا لهذه الخيبات التي لا تموت، قلتها وأنا أمرر راحة كفي على جبيني الذي بلله العرق البارد، شعرت بانقباض في معدتي وجفاف في فمي، كأن أحدهم غرس مدية في قلبي، كأن رمحاً اخترق معدتي، لا أعلم منذ متى أصبحت الإحباطات نديماً يلازمنا في يقظتنا ومنامنا نجترها كجمال. أتممت قراءة الصحف وأخذت نفساً عميقاً لامس قلبي، التففت حول نفسي كثعبان مسالم منزوع السم، خرجت إلى الشارع، أحسست أن المشي قد يساعدني في التحرر من الدوران حول نفسي، منذ مدة غير بعيدة انتبهت إلى تلك الحقيقة أنني أدور حول نفسي بلا جدوى ولا أجد حلولاً لشيء.. حنقي يتعاظم وكآبتي تزداد كثافة وفرحي يبهت، دهمني صوت شاب وأنا أعبر الشارع من نافذة سيارة تمرق كالبرق، لوّح لي بإشارة بذيئة من أصبعه الأوسط يبدو أن مشيي البطيء أزعجه، تضايقت في بادئ الأمر، ثم ما لبث الضيق أن تلاشى، تابعت سيري.. حاويات القمامة ممتلئة كنفوس أثرياء الغفلة، الشرفات المتلاصقة تبوح بأسرار ساكنيها.. تأملت الثياب المنشورة على حبل الغسيل المشدود، ألبستها أجساداً بطاقة خيالي، راقت لي تلك التسلية، ثمة حبال غسيل مرصوصة بالألبسة الداخلية المهترئة أحسست بقرف.. عيب أن تنشر الثياب هكذا «قارنت بين الغسيل المنشور دون أشخاص وسارقي الأراضي دون أسماء».. تأملت رتل السيارات المصطفة على جانبي الشارع بعد قليل سيخرج أصحابها إلى مشاغلهم وسيضعون الأقنعة على وجوههم.. يا ترى لماذا لم يعد يتصرف الناس بعفوية مع بعضهم؟ لماذا يشعر كل واحد أن عليه أن يلبس قناعاً للتعامل مع الآخرين؟ تساءلت بصمت، الكل يعرف أن الكل يكذب ويستمرون في الكذب.. هل يكذب الناس على بعضهم لأنهم يخشون أن يظهروا على حقيقتهم؟ أصبحنا نمارس تمثيلية الحياة المملة، كل يوم نتشارك في أحاديث كاذبة، ندعي أحاسيس لا نحسها ومواقف لم تحصل «نحجب أسماء المجرمين واللصوص ونسميهم رجال أعمال وشيوخا وأثرياء» لماذا نكذب!! كم تكون الحياة حقيقية لو انفتحت القلوب على بعضها على من تقع اللائمة يا ترى؟ رجل أعمال وشيخ وثري أشخاص يجب أن يكونوا في لائحة المطلوبين للعدالة لماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها!! أكمل سيري.. ثمة بشر نائمون على عتبات الدكاكين مداخل لا يزيد طولها على متر يتقوقع فوقها أناس على أنفسهم كأجنّة، ويجعلون من سواعدهم وسادة، والذباب يحف بأقدامهم الحافية المتسخة، تعجبت كيف يغفو إنسان نزيه وسط روائح العفن وإكليل الذباب، شعرت أن قلبي ينكسر بالحب لأولئك المساكين، هناك حب يطفح في القلب كعطر وحب يجعل القلب ينكسر بتواضع وشفقة على حال البشر. تابعت سيري.. بدأت (جدة) تستيقظ، وخرق الصمت قرقعة محركات السيارات وصوت سحب واجهات الدكاكين المعدنية، أحسست بالعطش ورغبة في كوب عصير برتقال، بدا لي يومي كوجه شاحب ليس فيه دفء ولا ودّ، كم من المحزن أن يغفو فقير على مدخل حانوت وثري لص ينعم في قصره في فراش وثير من لطش أراضٍ مليونية الأمتار.. نظرت في ساعتي حسبت أن تسكعي استغرق ساعة، توقعت أن تسترخي أعصابي لكن يبدو أن المشي وحده لا يكفي، التفت يميناً لأجد مسناً يفرش بضاعته على رصيف الحياة؛ باقات بقدونس وحبق ونعناع، كان يبتسم بوجنتيه الورديتين الطافحتين بالصدق.. تعلقت عيناي به تبسمت له بمودّة صافية، لم أكن أحتاج بضاعته، كنت أحتاج دفء نظرته وابتسامته، اشتريت منه مبتهجاً بسعادة، كان بجواره صبي، سألته إن كان يذهب إلى المدرسة؟ أجابني تركت الدراسة لأساعد أبي، حملت الكيس البلاستيكي وسرت أفكر في الصبي الذي ترك المدرسة، أحسست بوخزة ألم حقيقية في قلبي.. لكم هي حياة صعبة وقاسية.. في طريق عودتي استوقفني متسول قذر القدمين يبدأ نهاره بالدعاء الذليل أعطيته نقوداً والكيس دون أن أبالي بنظرة الدهشة من عينيه.. تابعت سيري يلحقني بدعائه «الله يبعد عنك المال الحرام» تابعت سيري متعباً، كانت روحي خفيفة كفراشة، كنت سعيداً أن يومي توشح بقليل من الدفء الإنساني الآخذ بالانقراض!.