-A +A
فؤاد مصطفى عزب
العيد في جدة «والله زمان» سنين طويلة مضت لم أقض العيد في «جدة» استيقظت مع نور الفجر المنهمر فوقي بلطف.. «جدة» تستيقظ كغانية من نومها بجسد كسول.. كقط بري أفلت من قفص أرغم على العيش فيه زمنا طويل نهضت.. كنت أقضي العيد في «كانسس ستي» حيث كنت أقيم.. اتجهت إلى «البلد» أحسست بحنين قديم أن أقضي العيد هناك شعرت بطمأنينة باردة غامضة تسري في جسدي كأنني استكمل حلما أريده ألا يتوقف كنت أتحايل على الزمان أن يأخذني هناك في العيد كطفل في نهاية الرضاعة.. صوت أم كلثوم يصاحبني في العربة «كلموني تاني عنك.. فكروني» كنت أتماهى مع الحنجرة والصوت فيما أخذت كل الكلمات المبعثرة في رأسي تصطف بشكل منتظم من أعلى نقاط التفكير حتى أخمص بقعة في الكتف.. لم يكلمني أحد أن أذهب للبلد في العيد فلا أحد هنا في العيد معي سوى نفسي هي التي «فكرتني» وتحرضني على ذلك زمنا.. وعدت نفسي أن أزور البلد في العيد وها أنا أفي بذلك.. صرت أعد نفسي بأشياء كثيرة في الستين.. أشياء مبهجة.. ناسبت الحياة.. جعلتها تتأقلم مع مقاسي فعلت ذلك حتى أسيطر على الجزء المتبقي من حياتي شعور هادئ بالرضا بما في يدي دون مطمع في ما يقع خارج سيطرتي.. أفرح بما يأتي ولا أحزن لما أحرم.. لا شيء أكثر من ذلك!! لا أريد أكثر من ذلك.. لا تراهن على غير سعادتك أبدا.. لا تؤجلها.. تناولها هكذا طازجة وعشها شهية تماما كما قال واسيني الأعرج مرة «السعادة لا تحتاج إلى استحالات كبيرة أشياء صغيرة قادرة أن تهزنا من الأعماق» عش كما أنت.. نعم قلتها وأنا أمشي ببطء شديد.. وأتوقف أحيانا لتأمل مشاهد جديدة لم أعتدها هنا.. أو لتأمل مشهد أعرفه جيدا فيساعدني على تحريض حنيني عبر تفاصيل غدت حبيسة الطبقات الخلفية في الذاكرة.. استقبلني أطفال أفغان يبيعون محارم.. لم يختفوا كليا كما توقعت في البلد.. أخ.. لا تتخيلوا كيف يكسرني منظرهم.. الأطفال أحيانا جرائمنا تمشي على الأرض.. كان علي أن أشتري كل ما لدى أصغرهم من محارم حتى أضمن على الأقل أنه سيقضي يوم العيد في مكان آمن عوضا عن هذا الجري المنهك في الشوارع.. لم أتركه حتى وعدني.. يا ليته فعلا صدق وما راح «ياب» دفعة بيع جديدة. «سوق العلوي» الحي بكامل تفاصيله السحرية البديعة ما زال يحمل الانبهار الأجنبي والانجذاب الشعبي له.. أنا أومن ولا أزال وسأبقى مؤمنا بأن هذه اللؤلؤة «جدة» مهما اتسعت ستتسع دائما لكافة أطيافها بحب «مدينة بجناحين لا تنسى التحليق» أنغمس في تأمل المارة أكثر فأكثر.. دوشة محببة.. ضوضاء.. بائعو الشاي على الفحم.. الذرة المشوية.. اللبان اللامي والشامي.. أصوات مختلفة.. الحاد.. الرفيع.. العالي.. الفج.. ألوان.. وحكايات.. وذكريات.. نكهة الدنيا كاملة هنا.. حي شعبي 100% بكل ما فيه ومن فيه.. أشبع عيني قدر الإمكان بالتفاصيل لأغلق عليها صندوق القلب أبحث عن مكان أتناول فيه «إفطاري» تقع عيني على مقهى متواضع كراسي بلاستيكية ملونة وموزعة حول طاولات مستديرة متوسطة الحجم تحت الشجرة العجوز الضخمة أمام «بيت نصيف» جلست على أحد المقاعد أتأمل ما آل إليه كل شيء بجوار البيت أشياء راسخة في ذكرياتها بكل تفاصيلها القديمة «يمني» يستقبلني بابتسامة ودودة يرسمها على وجهه وهو يتنقل بين الطاولات برشاقة ناثرا فرحا حقيقيا يصيب به زبائنه بالارتياح يحضر لي طبق فول وخبزا طازجا.. يا الله ما أجمل رائحة الخبز الطازج.. رائحة الخبز المشبعة تشبث الإنسان بالحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. أذكر مقالة جميلة «لإبراهيم اليوسف» قرأتها قبل مدة ليست بالطويلة تحدث فيها عن الخبز باعتباره جزءا من التاريخ والتراث الإنساني.. «وحده الخبز.. غاية أمل الفقراء ورفيق الأغنياء وابن الأرض ومعجون الماء ووليد النار.. هو وحده ذلك الكائن الذي نجح في توحيد جميع المكونات الدنيوية رغم تناقضاتها ليمازجها مؤسسا لفكرة الحضارة القائمة على ملء الفراغات وإتمام النواقص وتكامل الأدوار».. فرغت من إفطاري تجولت في ذاكرة الأماكن.. استرجعت ذاكرتي.. تبقى الذاكرة القوية على حالها.. مشكلتي ذاكرتي.. مرضي المقيم.. المتوارث أنزف كلما هبت الريح على الأشياء العزيزة علي.. تخيل ألا تتذكر.. هل كنت ستواصل الحياة.. هل كنت ستعيش.. هل كنت ستكون أنت اليوم هو أنت.. بالذكرى نجبر الكسور.. كنت بحاجة لنفسي اليوم لتمشي طويلا طويلا داخل مساحاتي الروحية.. ساعات في البلد كانت كفيلة بأن تعيد لي نصف توازني في يوم العيد.. في مدينة ثرثارة بامتياز.. دائما هي مليئة بالكثير من التفاصيل والأشخاص ودائما هي متأهبة لتكتب عنها وجها كبيرا.. كبيرا جدا يجعلك تبصر الآخرين بعدسة مكبرة.. الآخر الذي يشبهك.. الآخر الذي يرتدي زيك ذاته الآخر الذي لا يشاركك إلا صفة الإنسانية.. مدينة الزحام والفكرة.. هذه المدينة التي تعلمت فيها بالتدرج كسر حاجز الروتين.. مدينة مستعدة دائما أن تتجاذب معك أطراف الحديث أو لتصمت معك لكنها لا تتركك وحيدا أبدا يكسرها ذلك!! مدينة ليتها ظلت صغيرة.. لم تحرم الجنون والركض واللعب والمد الإنساني الطبيعي للمد الزمني. أفسدتها المساحيق التجميلية والكعب العالي المبكر من طفلة جميلة لعجوز دفعة واحدة.. أحببتها عندما كانت صغيرة لذلك أذهب إليها في «البلد» حيث تقيم حيث كركبة التفاصيل القديمة... حيث العمر الجميل!!