-A +A
فؤاد مصطفى عزب
ويأتي رمضان فتتوهج الذكريات اشتعالاً.. ثمة مرافئ تضاء في أعماقنا نتكئ عليها كل حين لنتحمل أوجاعنا الراهنة أيام تلهب الذاكرة كما يلهب كحول العمليات جرحاً مفتوحاً .. يطهره.. أيام أعيد طلاءها كأيقونة قديمة كمصابيح ملونة أعيد ملأها بالوقود .. ألج إلى الماضي كما يلج المرء إلى لوحة أثرية .. منجماً رائعاً من الذكريات يتضمن الكثير مما هو قديم وأثير لدي .. يأتي رمضان كإعلان للحب الروحاني بحروف كبيرة ما إن ينفث الهلال ألوانه في الأفق.. مكة تتمدد مرة أخرى على جانبي بتفاصيلها التي تأسر الألباب بغطرستها اللونية الذهبية في المساء.. بفقرها الساحق المتواضع اليتيم بجمالها بحوانيتها الصغيرة التي تحميها الأغطية المهلهلة تُلقى على ثغرها وقت الصلاة حيث تتكوم في الداخل كل السلع.. هدير أجهزة المذياع في المقاهي وبقبقة الأرجيلات ورائحة التنباك اليمني البهي ونداءات الباعة الجائلين الأشبه بالنواح ينتشرون في أخاديد الشوارع المتوهجة تمتد على كل جوانب الحي تتفرع مثل أزرع نجم البحر.. وقع أقدامنا تدوي في الذاكرة.. شوارع تمتلئ بالبشر كما يمتلئ مجرى نهر جاف عندما تسقط أمطار الربيع ودكك حجرية يجلس عليها الأطفال أمام البيوت في عاطفة حانية.. البرسيم الأخضر في لون الجوخ ندياً في «الحلقة» نتقافز عليه كالسعادين رائحة غنية بالتوابل من حوانيت العاطرين المجاورة ونفحات الخبز المخبوز من مخبز عمي «عبدالعال» أشياء تشبه الأثر الذي يخلفه القارب وراءه في الماء يرتعش بوميض فوسفوري.. أسبح تدريجياً في عمق الأيام أصعد إلى السفح مرة أخرى في بطء لا نهائي.. أفكر في الماضي أعود إليه عبر أدغال الزمن الكثيف.. كنا نراقب ظهور الفجر فوق الأسطح سهارى نراقب الأفق المرسوم في خطوط الصمت الذي يغلف مكة عاصمة الذكرى نراقبه يُغلف الأفق كله قبل أن توقظه العصافير.. الصوت العذب للمؤذن الأعمى المشدوخ من جامع «البدري» يعلن صلاة الفجر صوت معلق كشعرة في أجواء مكة العليا بنخيلها البارد يُسبح بكمال الخالق الموجود إلى الأبد الإله الكامل المتبقي الأسمى الواحد الأحد.. مآذن طويلة تقبل هسيس الفجر وحمام أبيض يتشقلب كأنما يتساقط من فوق أرفف خفية.. تعود لي لحظات منعشة للروح لا أستطيع السيطرة على مشاعري في هذه اللحظة أشعر وكأنني اضحك وأبكي في الوقت نفسه.. أفكر في كل ما أشتاق إليه وأفتقده في فوضى حياتي .. حكايات مجمعة أمست كالوجبة السخية التي أخذها الجن قبل أن يلمس المرء منها لقمة واحدة.. أول مرة صمت كنت فيها في السابعة من العمر.. جاء الظهر وكدت أنفق من العطش.. حتى حل العصر، ارتميت على عتبة الدار مثل ملاكم سقط بالضربة القاضية من الجولة الأولى كان كل من في البيت يأمرونني بالإفطار وأنا أمتنع متسلحاً بعناد الثيران مدافعاً عن قناعتي الإيمانية الطفولية ورجولتي المبكرة.. كيف أفطر والكل صائمون.. مت من العطش لم يجد عمي «حسن» رحمه الله عليه حلاً غير أن يحملني على كتفه ويملئ فمي بالماء غصباً عني وجدتني أُعبأ من الماء حتى امتلأت كرشي ثم تركني عمي ومضى.. زحفت وأنا مكسور الخاطر مثل طائر بريء صغير أرهقته نضالاته مع شرك من الغصون.. جلست أبكي بكاءً مراً.. كنت أبكي إفطاري وخيانتي لرمضان.. كنت أنظرهم يضحكون علي ويندهشون من عنادي حتى جاءت أمي وسحبتني من يدي وغيرت لي ملابسي وأخبرتني أن السنوات القادمة آتية وأن رمضان سوف ينتظر كثيراً.. أيام ذهبية مضيئة أليفة ساحرة فاتنة مثل عربة أطفال ملونة.. أتمنى أن تعود وأعود معها ذلك الطفل الذي كان يشاهد الألعاب النارية والمفرقعات الرمضانية البسيطة في الشوارع الممتلئة باللمبات الكهربائية شديدة التوهج والتي تجثم فوق الشارع مثل قشرة مخملية معلقة في السماء ويبتهج واضعاً كفه على فمه يحيي كل طلقة من المفرقعات بصيحة فرح طويلة مرتعشة صائحاً الله .. الله .. الله يا لها من كلمة !!