-A +A
فؤاد مصطفى عزب
اليوم تلقيت دعوة من عميد الكلية التي كنت أدرس بها للقاء الطلبة السعوديين الملتحقين بالجامعة.. سرت في أوصالي مشاعر دافئة وأنا أتلقى الدعوة.. كنت فرحا كطفل جاءته أمه لتأخذه من المدرسة بعد يوم دراسي طويل.. الجامعة لا تبعد كثيراً عن منزلي.. كانت معنوياتي عالية كسماء ((كانسس ستي)) في هذا الصباح.. كنت أشعر بضياء الصباح وأشعر بأنني حي وسعيد استلقيت لبعض الوقت على ظهري رأسي مرفوع فوق الوسادة .. أناظر الضوء المتسلل فوق مصرع النافذة لأول مرة منذ وصولي من جدة آخذا قسطاً كافياً من النوم .. وجدت غبطة كبيرة وأنا ألبي الدعوة فأنا لا زلت أحمل أطنانا من الحب لهذه الجامعة .. هناك صباحات في حياة الإنسان تمر في هدوء ورتابة وهناك صباحات تمر في نشوة عارمة وصباحات أخرى تمر في ضيق وكسل هذا الصباح كان كمروحة نخيل تدار في القلب .. نهضت من سريري بعزيمة الإسكندر المقدوني وعقل أينشتاين وعذوبة فيروز حين تغني ((أديش كان في ناس على المفرق تنطر ناس)) تحسست خدي بنوع من الفرح وانا أعبر الأماكن نفسها .. طعم القهوة يتلاشى في ريقي فيحل هياجاً يُغشي الأبصار ويقوي الذاكرة كنت الصق فيلماً بآخر لأنتج منه مسلسل أيامي القديمة .. كنت الصق المشاهد بعضها ببعض حيث الأشياء الصغيرة تتحرك والرؤيا تتخلل مشاهد تذكرني بالأشياء الجميلة .. تذكرني بان الوقت مضى سريعاً وان الأيام التي كانت تعطينا فيها الدنيا بلا حساب وتأخذ من دون مقابل ذهبت.. تنهيدة الراحة اللامسموعة تنطلق من بين مسامي وأنا ألقي تحية الصباح على شباب وشابات لا يحدهم شاطئ يلتقون في الطموح والقلق والحلم وجوه مخضوضرة وقلوب يافعة .. إحساس جميل بداخلي أحاول جاهداً إخفاءه حتى لا يراه أحد أنا البوهمي الذي لا يعرف ولا يخشى إخفاء سر في حياته لأنه واضح دائما كالشمس كان فرحي طافحاً أن أجد كل هذا العدد الضخم من الطلبة السعوديين محتشدين في القاعة .. كانوا يتحدثون معي وكأنهم يريدون استكشاف أعماق أعماقي .. حدثتهم عن الستيني الذي أمامهم كيف كان يختلف عن الشاب الجامح الذي بدأ أيامه الأولى في هذه الجامعة كأول سعودي بها وكيف كان يتصور يوماً أنه يستطيع أن يلمس السماء وهو واقف على الأرض .. حدثتهم كيف كنت أركض كحرف يتبع فكره .. كانوا يسألونني عن الغد كثيراً .. وقلت لهم انني لم أحضر هنا لأحدثكم عن الغد أنا هنا لأقول لكم اصنعوا كل شيء ممكن اليوم .. أحدهم قال لي تقول يا دكتور إنك لم تكره شيئاً في حياتك سوى الفشل في أي صورة من صوره ولكن دعني أقول لك ما نشعر به .. إن أسوأ من الفشل الذي تكرهه شيء اسمه ((الإحباط)) عندما يكون بداخلك حلم وتعلم أنه لن يتحقق ليس لأنك عاجز عن تحقيقه ولكن لأن ظروفاً تحول بينك وبينه .. لا أحد يهتم بنا.. لا أحد يهتم بتحقيق أحلامنا.. لا أحد يهتم بمستقبلنا.. وكان رأيي أنه يجب أن لا تعيروا أذناً ((للمحبطين)) قلت لهم ارفعوا أصواتكم عالياً في وجوه كل من يحاول أن يحبطكم قولوا لهم بأنكم تريدون أن تعملوا في حياتكم وبحياتكم أشياء كثيرة غير السماع لصوت النعيق .. تأهبوا للغد بكل تفاؤل .. لا تعيروا سمعكم إلى هذه الأراجيف التي تُضعف قوى الروح وتجعلكم مشتتين تنظرون ولا ترون وتسمعون ولا تعون .. معلومات سطحية وفي الغالب مغلوطة ومفبركة وأحياناً ضالة تماماً ينشرها هؤلاء ((المحبطين)) نحن لا نواجه في هذه المرحلة أزمة سياسية أو اقتصادية أو تقنية فنية بل الحاجة إلى الرجال، عليكم أن تعودوا رجالا تذكروا دائماً في كل خطوة أهاليكم ووطنكم وتاريخكم .. اعتبروا ان كل هؤلاء يراقبونكم. قال لي احدهم أحياناً تعتريني كآبة مطلقة وافكر في العودة ..قلت له الكآبة الحقيقية هي إذا عدت إلى الوطن ولم تحقق شيئاً.. إذا عدت ولم تبلغ الغاية التي جئت من اجلها .. لأنك بذلك تكون قد خدعت نفسك وخدعت الآخرين وسرقت فرصة غيرك.. فاللص ليس فقط من يسلب عابر سبيل أو ينهب بيتا أو مصرفا بل هو ايضا من يقتل حلم الآخرين أو يسرق منهم الأمل.. وانتهى اللقاء وودعت الشبيبة.. شبيبة تشبه التراب الأسمر في أواني الزرع.. حبات قمح مذهبة ستعود بإذن الله لتكون خيراً ورزقاً لهذه البلاد .. الذكاء الا نجعلها أكياساً مرصوصة ينخرها السوس في مخزن البطالة ..