-A +A
فؤاد مصطفى عزب
عندما كنت أتلقى تعليمي الجامعي شاء القدر أن يشاركني السكن الطلابي شاب ريفي أمريكي هاجر من الريف إلى المدينة إلا أن الريف ظل يعيش في داخله.. عاش طفولته في قرية في وسط أمريكا حيث الناس كانوا يعتمدون على الرافعة في الحصول على الماء والمنازل تدفأ بواسطة الموقد ويتم تنظيف المداخن بيد منظفي المداخن الصغار الذين يتسلقون سريعا أنابيب المدخنة مرتدين قبعة حريرية عالية كان يحدثني دائما كيف كان السكر يباع بقطع كبيرة ويتم تكسيره بأداة حادة وكيف كانت الخضروات والفواكه تزرع في فناء البيوت والمدخنون يلفون السجائر بأنفسهم.. كان ريفيا حتى النخاع.. كان لا يبالي بملابسه كثيرا لكنه ينتقي كلماته بعناية وكان يكره المظاهر الكاذبة والزيف بكل أشكاله كانت أنغام الكمان التي يعزفها الريفيون تثير مشاعره حد الدموع رغم أنه في بعض المواقف يكون قاسيا على نفسه مثل قطعة من لجام حصان. وعلى الرغم من أنه كان متدينا باعتدال إلا أن له رأيا في إنشاء الكنائس الكثيف كان يقول «إنه مشروع ناجح تماما من وجهة نظر صناعية..» كان معتزا بكونه ريفيا للدرجة التي قال لي فيها مرة عندما قلت له إن فلانا عبقري؛ إن الفلاحة التي تصنع الجبن الطيب في قريتي هي عبقرية بنفس القدر.. كان له وجه هزيل يتلبسه تعبير من السخرية المحببة.. أكثر ما يؤثر بالناس الذين يلتقونه لأول مرة كانت يداه وعيناه مشوهتان بشكل مروع إثر حادث حصل له وهو يحرث الأرض ولون عينيه بنيا غامقا يقارب الكهرمان وهما حادتان ونفاذتان لكنه عندما يتحدث يحتل عينيه تعبير من الحنان الممزوج بالسخرية.. كان يدرس الحقوق وأكمل دراسته بتفوق وأصبح محاميا مشهورا ثم مدعيا عاما ثم قاضيا فدراليا سلوكه الملتزم جعل منه شخصية قانونية بارزة تابع دربه من مثالية إلى أخرى حتى وصل إلى مرحلة من المثالية الجامحة.. كان واضحا أنه سيكون شيئا ما رغم أنه كان يردد دائما ان الألقاب والتصنيفات هي أمر واقع لكن لا يمكن للقب أن يفصح عن جوهر صاحبه.. إلا أن لا شيء كان يحول دون بلوغه لغايته كانت أمور كثيرة تهمنا في ذلك الوقت ونحن في ريعان الشباب تبدو له تافهة ومسائل أخرى صغيرة عندنا كانت لها أهمية كبيرة عنده الأمر الذي كان باعثا على الدهشة حتى إلى أقرب محبيه.. واستمرت صداقتنا.. كانت وما زالت تلك الصداقة الممتدة رمزا للصحة الأخلاقية الجديرة بالاحتفاظ «أي شيء لا يمكن ان يجعلك مريضا هو صحي» ونشأ بيننا جو حميم حيث كنا نفضي بسرائر أنفسنا وآلامنا الشخصية لبعضنا البعض.. كنا نتحدث في كل شيء وعن أي شيء عائلتنا أصدقائنا الأشخاص الذين كانوا معنا في الجامعة وكانوا موضع إعجابنا وما وصل بهم الحال وفي جزء كبير من أحاديثنا وجهة نظر كل منا في التغيرات السريعة لعالمنا الغريب.. اعتدت أن أذهب إليه بعد ظهر أيام الآحاد.. أذهب إليه للغداء.. نجتمع في مقهى صغير عند زاوية الشارع في طرف القرية.. كان يوما جميلا من أيام الربيع حيث تبدأ الأشجار المصطفة على ضفة النهر بالتبرعم بألوان بديعة.. كنت أستنشق «بارك فيل» بكل روحي وعبر مساماتي كلها أمتلئ بها.. كان الهواء محملا بالروائح المختلفة للقرية سوقها العتيق.. أحجارها.. الرائحة العبقة للشجر الممزوجة بالعبير الخفيف لزهور الليلك التي تنتشر في الجو.. نسيم لاذع كان هو حقا هواء «بارك فيل» حيث الأرض تتحول إلى رائحة مسكرة حين تسفعها الشمس الربيعية الخفيفة الممزوجة ببقايا المطر. حملت له معي «هدية» بسيطة من «دبي» كانت عبارة عن ربطة عنق خضراء زاهية بلون حقل محروث، حييته وقدمت له «الهدية» استلمها مني وسألني: ما هذا هتف قائلا!! قلت له هدية.. لمحت تعبيرا على وجهه يشبه ذلك الإحساس بتقلصات ألم المعدة.. احسست بالقلق وأنا أرى وجهه يتغير لونه ببطء من الأشقر العسلي إلى الأحمر القاني وكأن كارثة وشيكة الحدوث.. استغرق مني بعض الوقت حتى أفهم سبب امتعاضه.. قال لي بمديح صادق وهو يعيد لي الهدية.. أنت تعلم أنك من أسرتي الأقرب لكني أقسمت ألا آخذ هدية من أحد إلا «من زوجتي وأبنائي فقط».. شعرت بالإساءة بعض الشيء.. ما هي إلا لحظات حتى أخذ يستأنف بمجاملة صغيرة كان يتصرف كما لو ان ما من شيء معيب حدث منه.. نحن معشر القضاة لا نقبل الهبات ولا الهدايا إطلاقا.. هل تنوي التخلص مني بأن تودعني السجن بربطة عنق؟ حسبتك تريدني بالقرب منك!! قالها وعلى فمه ابتسامة ساخرة ثم اتبعها بجملة اختزلت تلك الجملة كل التفاصيل والمعاني الخفية والظاهرة «الهدايا تجعل المواقف زائفة والقانون مطاطا لقد عاهدت الله على أن أكون حارسا على تأدية الحق وسأظل حتى لو أصبت بالعمى فسأتبع نفس الطريق» كان يقول ذلك وعيناه تبرقان بصدق حقيقي واضح كنت أحس بنمل الكلمات تسري في أطرافي يبدو أنها ما زالت تغمرني حتى الآن وأنا أكتب لكم!!