-A +A
فؤاد مصطفى عزب
هذه قصة امرأة «إيرلندية» .. القصة يعود تاريخها إلى أيام عملي الجميلة بمستشفى الملك عبدالعزيز الجامعي بجدة، امرأة غائبة من لحم ودم أصبحت ذكرى كاملة أكتب لكم عنها بكثير من الحب وقليل من النسيان كانت خليطا من النور والنعومة والغيوم كانت تختصر الحياة وهي تحدثك بابتسامتها الودودة ولمعة جميلة في عينيها الخضراوين ووجهها الحنون كان كل شيء فيها بسيطا كالتفاصيل العفوية.. تتحدث بلغة سهلة مثل شربة الماء قدمت للسعودية من «إيرلندا» في الثمانينات الميلادية قدمت من بلاد الحدائق الخضراء التي لاتنجب غير الورد والفل والياسمين والأساطير القديمة والحكايات والضباب الداكن والسماء التي تمطر ماسا ونعاسا وحلما جميلا حيث ندف الثلج تنزل في الشتاء على الأرض كراقصة ترتدي لباسا أبيض شفافا وتتلوى بلذة.. عملت كمشرفة على قسم الاطفال الخدج وشاء الله أن تلتقي بسيدة نبيلة وضعت مولودتها الأولى بعد طول انتظار واختارت وزوجها الرجل الأسطورة الذي كان ينشر على هذا البلد الحب والحكمة والذي كان بارعا في اختيار العبارات الواضحة الحكيمة التي تبرز فكره ومعدنه وصفاء ذهنه وبعد نظره رحمه الله.. وأصبحت «لينا» هكذا كان اسمها قبل أن تعتنق الإسلام روح تلك الفتاة.. صارت تحرسها وتعلمها وتسهـر على راحتها بحبها الصادق وروحها البيضاء الناصعة.. واكتسبت محبة الجميع داخل المنزل وخارجه واحتضنتها تلك الأسرة العريقة بعشق أسطوري وأحبتها حبا يصعب تفسيره .. وظلت هي الأخرى تطوقهـم بإخلاصها كشعاع من نور.. واستمر التواصل بيني وبين تلك العجوز «الايرلندية».. كنت أحب شرب الشاهي المعطر بالقرنفل من يدها كلما أزورها.. وكانت تحب العطور الطبيعية .. كان لها عطر مميز خاص بها تحضره من «دبلن» كانت تصنعه بنفسها.. لم يكن عطرا صناعيا كان عطرا طبيعيا هو خليط من رائحة تراب «دبلن» المبتل بمياه المطر أول الشتاء ورائحة حليب طازج يشربه صباحا طفل في الثالثة من العمر.. حتى ذلك العطر شعر بأنه لايستحق البقاء بعد رحيلها فرحل.. ركض خلفها ونام على عنقها وكأنه يلقننا درسا في الإخلاص قد تشمونه في هذه السطور.. وكما يضيء الحلم من بعيد ونتبعه كفراشات تقتفي أثر الضوء تبعت «لينا» ضوء ذلك العظيم الذي رحل أسلمت على يديه واعتنقت الإسلام .. رسمت خطا واضحا بين الحلال والحرام كي لاتضيع الطريق إلى الجنة ووضعت نظاما لأيامها مهما كانت متشابهة وبحثت بين أيامها عن جميع العقد التي مرت بها لملمت كل العقد عقدة عقدة ثم فككتها لجزيئات مفهومة لتعطي لوجودها معنى ثم بنت لنفسها عالما يليق بها لا ينتمي إليه أحد سواها وغطت «لينا» شعرها الرمادي القصير بحجاب أبيض بلون صفاء انتظارها الطويل للنور.. وتعاطف معها الجميع ومن لا يتعاطف مع امرأة أمسكت مصيرها بيد من حديد وثارت على ما تقرر أنه مصيرها بعزم وعقل صافٍ.. وكما تمر الأشياء الجميلة التي نحب بسرعة ويصبح من الصعب معها التوقف طويلا عند أحلامنا الصغيرة الضائعة.. وكرواية اتخذت شكلها النهائي .. بدأ الوهن والضعف والمرض يحتل جسد «لينا» ويسيطر عليه محولا ذلك الجسد النوراني إلى قماش بالٍ كلما ضغطت عليه ازداد تمزقا .. صرت أشاهد «لينا» تموت بالتقسيط أصبح عودها الغض يابسا كقصبان الوديان الميتة تحولت إلى كائن طيفي يقتات اللحظات بانتظار الموت، كنت أتأملها بحزن محب سقط على رأسه من أعلى شرفات قوس قزح.. كنت أزورها أحيانا فأجدها نائمة هادية على خصرها الأيمن رغم الألم تحتضن المصحف وخلفها ستارة سوداء مخططة بالآيات القرآنية كان لتلك الستارة قصة رائعة قد أجد مساحة أخرى لذكرها لكن هذه قصة أخرى وليس من المستحسن أن نبدأ قصة بذكر قصة أخرى.. وتمضي الأيام لتغفو «لينا» المرأة التي كانت في أيامها الأخيرة ترجو النوم أن يزورها.. غفت سريعا من دون أن تجهـز نفسها للغياب الأبدي الجميل إلا من مصحف تحتضنه.. غفت بصفاء وطمأنينة دون حروب نفسية.. نامت بشعرها القصير الأبيض كما أحبته نابتا قليلا فوق جلد رأسها.. وحقق الله حلمها الذي طالما خاطبته كثيرا أن يحققه أن تدفن في «مكة» وصلى عليها في البيت الحرام مئات الألوف من المصلين الصائمين المعتمرين .. وهكذا رأيت «لينا» البارحة في منامي تصلي في حقل من الأزهار ويرتسم على شكل قلب على جبينها على خط الشعر فوق الحاجبين.. رأيتها تنتقل بين بستان وآخر بخفة.. تركتها هناك في أمكنتها تلك وفتحت عيني مثل صبي استيقظ فجأة من حلم بنفسجي لأكتب لكم عنها وكأنها مازالت على قيد الحياة.. ورحلت «لينا» مع الرياح التي جلبتها أمتطت الرياح ذاتها التي أتت بها.. ورحلت.. رحلت كاللواتي سبقنها كالآخريات .. كجميـع النساء اللواتي عرفتهـن لكنها لم تكن كالبقية .. أختصرتهـن جميعا كنجمة مزهوة بالقائها.. أرادت أن تنقذ نفسها من هلوسات الحياة السريعة المبهـرجة فاعتنقت الإسلام ودفنت في أطهـر البقاع.. رحمك الله يا «لينا».. ورحم الله من أعتنقتِ الإسلام على يديه !!.