-A +A
فؤاد مصطفى عزب
قد لا يصدق أحد ما أرويه اليوم، على الرغم من أنني أروي الحقيقة.. وإن كنت فعلا لا أطمح في أن يصدقني أحد.. فهذا مطلب مستحيل تخليت عنه من زمن طويل إلا أن لدي رغبة حقيقية هذا الصباح أن أستمتع بقول الحقيقة.. ولا شك أن الضعف البشري سيجعلني أحرص على حذف بعض التفاصيل القاتلة في هذه القصة إلا أن هذا الحذف لن يؤثر على جوهر القضية.. كانت البداية عندما استضفت مسؤولا «ماليزي» صديقا في هذا الشهـر الفضيل يزور المملكة للمرة الاولى.. ودعوته إلى الاختراع الرمضاني الذي تقدمه فنادق «جدة» وتتفنن في الترويج له «إفطار البوفيه المفتوح» وقفت أنا ورفيقي الماليزي بعد أن تناولنا التمرة والقهوة وأدينا فريضة المغرب، نحمل في أيدينا أطباقا فارغة ننتظر دورنا في صف طويل خلف من يتسابق في الوصول إلى المائدة الطويلة العامرة بأنواع شتى من أطيب المأكولات وبكميات كبيرة.. لكن حركة الصف توقفت لفترة طويلة.. ثم ما لبث أن تحرك في بطء شديد نظرت إلى نفسي فوجدت أنني أحمل الطبق الفارغ وأقف كالمتسول المسكين الذي ينتظر أن ينال حظه من نعمة الطعام.
وبعد انتظار ممل جدا تخلله الكثير من التجاوزات والتسابق للوصول إلى الطيبات تغلب في نفسي الشعور بالكرامة وعزة النفس على الشعور بالجوع والرغبة في تناول أصناف الطعام المرصوصة في إغراء شديد على المائدة فابتعدت بنفسي عن الصف الطويل مما أسعد الشخص الذي كان يقف ورائي مباشرة والذي حفرت جزمته خندقا في «كعبي» إذ تقدم خطوتين إلى الأمام واقترب بنسبة أكبر نوعا ما.. من باب «الفرج» وإذا كانت مشاعر الكبرياء قد تغلبت عندي على مشاعر الرغبة في تناول الطعام إلا أنها لم تتغلب على الرغبة الجامحة في حب الاستطلاع والفضول لمعرفة تفاصيل ما يجري أمامي.. أخذت أنظر إلى ما يحدث بعين المراقب وأستمع إلى ما يقال في هذا الصف الطويل من المتسولين الحضاريين الذين ينتظرون دورهم في الطابور.. ووقع نظري أولا على رجل يقف أمام خروف محشي بالأرز والصنوبر وقد راح يقلب الخروف ويطلب من النادل الواقف على الجانب المقابل أن يقطع له قطعة لحم من هذا المكان وأخرى من الظهـر وجزءا من الكتف والناس تنتظر وراءه في صبر عظيم ثم أخذ صاحبنا يتذوق اللحم بيده ويبدي رأيه في طريقة التحضير ولم يتحرك من مكانه إلا بعد أن انتقل نصف الخروف للطبق الذي كان يمسكه بقوة ثم اتجه بعد ذلك إلى طبق السمك الطويل وكرر ما فعله أمام طبق الخروف.. ثم بقية الأطباق والناس من ورائه يتمسكون بفضيلة الصبر .. أما زوجته فقد وقفت منبهـرة أمام تشكيلة «الروبيان» تتحدث مع طفلها وهي تلتهم «روبيانة» كبيرة الحجم بعدما غطستها في الحساء الخارجي الزهري اللون، كان فمها مملوء بأشياء أخرى تجرشها من مخارج الحروف والكلمات ..

ولم يكتفِ الرجل بالطبق الذي ملأه بنفسه لنفسه، بل نظر وراءه وهو يملأ طبقا ثانيا بالطريقة نفسها وراح يبرر فعلته بالقول «لا مؤاخذة» إن زوجتي متعبة من الصيام ولا تستطيع الوقوف معي في الطابور ويجب أن أحسب حسابها فأنا رجل حساس جدا في مثل هذه الظروف ولا أقبل أن أميز نفسي في شيء عن زوجتي العزيزة .. وطيبت خاطره وأنا أكظم غيظي بعناء شديد مجيبا «كلك ذوق لقد اعتقدت أن شبكة الربيان التي تنسحب خلفك زوجتك » وفي مكان آخر من الطابور الحضاري كانت هناك أمرأة .. تمسك بيديها طبقين تملأهما بكل ما يقع تحت يدها من أصناف الطعام بعدما تتذوق كل صنف على حدة وما لبث الطبقان أن أصبحا مثل جبلين على ارتفاع ملحوظ ثم نظرت السيدة حولها فرأتني واقفا أراقبها بشيء من الفضول فقالت لي مشجعة «تقدم ما بالك تقف هكذا» ولم يكن لدي ما أقوله سوى «هو بقي حاجة» بعد ما رأى صديقي «الماليزي» تلك المناظر غير المشجعة تبسم لي بأدب جم وأعتذر معربا عن رغبته في تناول الإفطار في حجرته حيث كان يقيم في نفس الفندق.. عندها أدركت أن «فكرة البوفيه المفتوح» لا تختلف عن فكرة الحياة المفتوحة في مجتمعنا العربي المليء بالانتهازيين من مقتنصي الفرص والمتسابقين إلى مـلء أطباقهم قبل وصول غيرهم إلى الخيرات ففي هذه الطوابير تظهـر الأطماع بوضوح حيث هناك من يملأ لنفسه ولا يفكر في الآخرين الذين يقفون بكل أدب واحترام ونظام وخجل وانتظار دورهم في الوصول إلى مائدة لا يصل إليها في الواقع إلا الراسخون في الشلمة!!.. واللهم إني صائم.