-A +A
رشيد بن حويل البيضاني
قد يعجب الإنسان بنفسه إعجابا ربما تتعوذ منه الشياطين من شدة الإعجاب والتبختر فما أحسن العمل أن يكون فيه تواضع والنظر إلى النفس بأنها لا تملك شيئا مع الله وأن جميع عمل الإنسان مهما بلغت درجته فهو لا يسوى شيئا مع قدرة الله. فقد نجد إنسانا يدعي المعروف أو يدعي الكرم أو يدعي قدرته على إنجاز عمل ما ولا أحد غيره فيبلغ الزهو والفخر مبلغه، لذا التوطن والتواضع ومعرفة فضل الآخرين مهم جدا في تهذيب النفس وترويضها. يقول معن بن زائدة: لما انتقلت الدولة إلى بني العباس، جد المنصور في طلبي، وجعل لمن يحملني إليه مالا، فاضطررت لشدة الطلب أن تعرضت للشمس حتى لوحت وجهي، وخففت عارضي، ولبست جبة صوف، وركبت جملا، وخرجت متوجها إلى البادية لأقيم بها.
فلما خرجت من باب حرب، وهو أحد أبواب بغداد، تبعني أسود متقلد بسيف، حتى إذا غبت عن الحرس، قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض على يدي، فقلت له: ما بك؟

فقال: أنت طلبة أمير المؤمنين، فقلت: ومن أنا حتى أطلب، قال: أنت معن بن زائدة، فقلت له: يا هذا اتق الله، وأين أنا من معن؟، فقال: دع هذا، فوالله أني لأعرف بك منك، فلما رأيت منه الجلد، قلت له: هذا جوهر قد حملته معي بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي فخذه ولا تكن سببا في سفك دمي، قال: هاته، فأخرجته إليه، فنظر فيه ساعة، وقال: صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسالك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك، فقلت: قل.
قال: إن الناس قد وصفوك بالجود، فأخبرني: هل وهبت مالك كله قط؟، قلت: لا، قال: فنصفه؟، قلت: لا، قال: فثلثه؟، قلت: لا، حتى بلغ العشر؟ فاستحييت، وقلت: أظن أني فعلت هذا.
قال: وما ذاك بعظيم، أما عني فرزقي من الخليفة كل شهر عشرون درهما، وهذا الجوهر قيمته ألوف الدنانير، وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أن في هذه الدنيا من هو أجود منك، فلا تعجبك نفسك، ولتحقر بعد هذا كل جود فعلته، ولا تتوقف عن مكرمة.
ثم رمى العقد في حجري، وترك خطام جملي، وولى منصرفا.
فقلت: يا هذا، قد والله فضحتني، ولسفك دمي أهون علي مما فعلت، فخذ ما دفعته لك فإني غني عنه.
فضحك وقال: أردت أن تكذبني في مقالي هذا؟ والله لا آخذه ولا آخذ لمعروف ثمنا أبدا، ومضى سبيله.
فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت ووليت بلاد اليمن، وبذلت لمن يجيء به ما شاء، فما عرفت له خبرا، وكأن الأرض ابتلعته.