-A +A
رشيد بن حويل البيضاني
الإكرام الذي أقامته «عكاظ» لرمز الجريدة عبدالله عمر خياط، كان له الأثر الطيب على جميع المثقفين بالمملكة، فالتكريم بالحياة له مزية محمودة على المكرم وعلى المجتمع ككل، بعد حضوري ليلة إكرامه اصبحت على مقال جميل للأستاذ عبدالله خياط كتب فيه عن الحوار الذي دار بين النجاشي ملك الحبشة والمهاجرين المسلمين الذين فروا بدينهم إليه، خوفا من بطش أقوامهم في مكة. وقد أفاضت كتب السيرة، وعلى رأسها سيرة ابن هشام، في الحديث عن النجاشي، وذكرت المهاجرين باسمائهم وقبائلهم، والحوار الذي دار بين النجاشي وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد تساءل الأستاذ الخياط عن كيفية إدارة هذا الحوار: هل كان النجاشي يعرف العربية، أم كان المهاجرون أو بعضهم يعرف الحبشية، الأمر الذي لفت انتباهي من عدة جوانب أهمها ما يلي:
العلاقة بين الحبشة وعرب شبه الجزيرة قديما، حيث لا يفصل بينهما سوى باب المندب، وقد أشار كثير من الباحثين إلى هجرات عربية تمت قبل الإسلام بقرون، من شبه الجزيرة للحبشة، بل إن اسم الحبشة يرجع إلى قبيلة عربية تسمى «حبشت»، كما أن لغة الأحباش «الجعيزية»، نسبة إلى قبيلة عربية كذلك، وهي لغة النجاشي في ذلك العصر، وهي لغة يعدها الباحثون ضمن مجموعة اللغات السامية التي تعتبر العربية أقدمها، أو هي الأم. هذه اللغات تتشابه في كثير من خصائصها.

لقد شهدت مكة قبل الإسلام تواجدا مكثفا للأحباش، حيث كان كثير منهم من الموالي، كما كانوا يقومون بأعمال حراسة القوافل لشجاعتهم وأمانتهم. فالعلاقة بين العرب والحبشة قديمة، واللغة العربية هي بمثابة الأم للغة النجاشي آنذاك، فليس بمستبعد أن يكون النجاشي ملما بالعربية.
ترتكز كتب السيرة على طرفي الحوار ــ الحبشي العربي ــ وهما: النجاشي من جانب، وجعفر بن أبي طالب من جانب آخر، وهذا يرجح أن يكون جعفر رضي الله عنه كان يجيد لغة الأحباش، ومن ثم تولى هو الحوار مع ملكهم، واعتقد أن هذا قد يبدو مقبولا.
كنت أتمنى أن ننشغل أكثر، لا بلغة الحوار، وإنما بإدارة الحوار، وعظمة الطرفين المتحاورين: ملك، منفتح، غير متعصب، عادل لا يقبل الظلم، لا يشترى بالهدايا والأموال، كما تم شراء البطارقة من قبل ووفد قريش الذي ذهب لطلبهم من النجاشي، وطرف آخر جعفر بن أبي طالب، الذي لخص باقتدار وبراعة، جمال الإسلام وجلاله، في عبارات جامعة وبسيطة، ركز فيها على فضائل الأخلاق التي جاء بها الإسلام، التي لا ينكرها أو يعارضها ذو عقل رشيد. فهو يخاطب ملكا، من المنطقي أن يكون عاقلا غير متهور ولا طائش، كما ظهرت براعة المحاور العربي، في اختيار الآيات الكريمة التي قرأها من بدايات سورة مريم، لتمس شغاف قلب الملك النصراني. لم يتحدث جعفر بن أبي طالب في اختلاف العقائد، ولا في المعاملات والشرائع، وإنما أحسن عرض قضيته وفقا لمن أمامه، فكانت النتيجة ــ كما ذكرت كتب السيرة ــ إسلام النجاشي.
كان هذا الحوار الرشيد، البعيد عن «التكفير» أو السخرية من ديانات الآخرين ومللهم، سببا في نجاة المهاجرين، بل وفي إسلام ملك نصراني، في وقت أبت فيه عقول كفار مكة أن تقبل هذا الدين، وقست قلوبهم وصمت آذانهم، وعميت عيونهم.
كلمة أخيرة: أتمنى أن نشغل أنفسنا بعبر السيرة وعظاتها، ونستخلص منها دروسا تفيدنا في حاضرنا، فنحن في أمس الحاجة لأن نسلك منهج حوار جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، أكثر من حاجتنا لمعرفة لغة حواره مع ملك الحبشة. رحم الله الجميع، وهدانا إلى طريق الحق والرشاد.