-A +A
نجيب يماني
بمثول هذا المقال بين يدي قارئه اليوم، سيكون قد انقضى اليوم الأول لتجربة قيادة المرأة السعودية للسيارة، في حدث لا شك أنه سيلفت نظر العالم أجمع، وسيدير بوصلة الاهتمام الإعلامي باتجاه المملكة، لما ينطوي عليه من رسائل عديدة، وهنا مناط الاهتمام والترقب. فليس في قيادة المرأة للسيارة ما يبعث على الاهتمام في أي ركن من أركان هذه الدنيا العريضة، ولكنه يأخذ بعدًا آخر في المملكة العربية السعودية، ويشير باتجاه خروج هذا الوطن المعطاء من دائرة الضيق والحرج القديم، المنسرب إليه من محصلة مفاهيم وأفكار كبلت خطوات التطور والتقدم فيه، وأقعدته عن استشراف العالم على نحو طبيعي مواكب لمسيرته الممتدة، لتفتح المملكة في هذا العهد الزاهر، عهد خادم الحرمين الملك سلمان، وولي عهده الأمين محمد الخير، حفظهما الله، نوافذ التطلع، وتضع عن كاهلها إصرًا من إرث كان حريًّا بها أن تفارقه منذ زمن بعيد، لتعود بنا الحياة إلى طبيعتها السليمة، وسجيتها الحلوة، بلا أي مثاقيل من خطابات وعظية مفخخة النوايا، أو وصاية مفروضة علينا بسلطان الكهنوت، ممن أكسبتهم غفلتنا جرأة على حريتنا، ومنحهم صمتنا مساحة للتمدد والسيطرة علينا، إلى غاية تفتيش طوياتنا، ومحاكمة نوايانا..!

نعم؛ اليوم تأخذ المرأة السعودية مكانها خلف مقود القيادة، ليس من باب الترف، أو الخروج على ثوابت الدين والشرع، أو كسر منظومة القيم المجتمعية، كما يقول بذلك البعض ممن لا يروقهم هذا التطور الطبيعي، ولكن قيادة المرأة للسيارة اليوم تدخل في حكم الضرورة الملحة عند بعض الأسر، وقد تغيّرت معادلات الحياة في كافة مناحيها الاجتماعية والاقتصادية والقيمية، وغيرها مما يتصل بحياة الناس ومعاشهم اليومي، فالفوائد المرجوّة من هذه الخطوة ترجّح بشكل كبير كل السلبيات المحتملة، ولنا أن ننظر في هذا السياق إلى عامل الثقة الذي يتوفر للمرأة السعودية جرّاء هذه الخطوة الموفقة، بما يمنحها القدرة والمساحة للإسهام الإيجابي سواء في محيطها الأسري أو المجتمعي أو الوطني دون مثاقيل الريبة والشك، ودون أن يكون تحركها موجبًا لتعطيل حركة الآخرين، أو تحميل الأسر أكبر من طاقتها في سبيل من يوفر لها وسيلة الحركة ومن يقودها..


لقد أحسنت القيادة للمرأة السعودية وهي تضعها أمام هذا الرهان الكبير، وإني على يقين وثقة بأنها ستكون قدر هذا التحدي والرهان، وآية ذلك في الاهتمام الكبير الذي شهدته كافة القطاعات المعنية بإنزال هذا الأمر إلى أرض الواقع، فكم كان رائعًا ذلك التجاوب الكبير من قبل مدارس قيادة السيارات في الجامعات وغيرها وهي تفتح باحاتها لتدريب المرأة، وتستنفر كوادرها من أجل بسط ثقافة السلامة المرورية والتوعية بأساسيات القيادة السليمة المنضبطة، ليقترن ذلك بما أولته إدارة المرور من اهتمام بموضوع رخص القيادة، والتشديد على استيفاء المتقدمات لها لكل الاشتراطات والالتزامات المطلوبة، بما في ذلك اجتياز الاختبارات بكل جدارة واستحقاق.. كما سعدت كثيرًا وأنا أتابع جهود بعض منظمات المجتمع المدني النشطة في هذا المجال، مثل الجمعية السعودية للسلامة المرورية، وما أنجزته هذه الجمعية من برامج في هذا المجال، بخاصة قافلتها للسلامة المرورية التي سيرتها قبل أشهر معدودة وطافت بها عددًا من الجامعات، وأجمل ما انطوت عليه برامج تلك القافلة أنها لم تكتفِ بالجانب النظري والمحاضرات التثقيفية والتوعوية، بل إنها قامت بالتدريب عمليًا من خلال توفير بيئة قيادة مشابهة لما يمكن أن يصادف قائد المركبة في الطريق العام، بما يضعه أمام كافة الاحتمالات، وإرشاده من ثمّ إلى طريقة التصرف السليم والآمن، على نحو علمي مدروس، فكانت بحق قافلة موفقة، وننتظر من هذه الجمعية الكثير مستقبلاً في هذا المجال.. فبمثل هذه المبادرات الخلاقة، والتعاون المشترك تتعضد حظوظ نجاح هذه التجربة، ويرتفع سقف الأمن والسلامة المروية إلى الغاية المطلوبة عند دخول المرأة إلى ميدان القيادة في الشارع العام، ومع تنامي نجاح هذه التجربة سيفقد الجالسون على الرصيف ما يملأ نفوسهم من أحاسيس الريبة والحذر، وسيدركون قريبًا أن الأمر ما كان له أن يأخذ منا كل هذا الوقت لندرك أنه «سلوك طبيعي»، لا يهدم ثوابتنا الاجتماعية؛ بل يقويها.. ولا يخترق خصوصيتنا؛ بل يحفظها.. وليس فيه أي نوع من الخروج على الدين، وإنما ترسيخ لبنيانه الواقر في صدورنا محبة ويقينًا وفخرًا وعزًا..

مرحبًا بالمرأة السعودية في الشارع العام خلف مقود السيارة رسمياً، لتعزيز مفهوم الثقة، والمساهمة في الحياة بشكل سلس وطبيعي، ولتعلم أن قيادتها للسيارة ليس غاية في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق غايات أخر، أجل معنًى، وأسمق رؤية، وأبعد أفقًا.. فالمنتظر منها كثير، وعليها أن تكسب الرهان بالوعي، والمسلك المنضبط، والمحافظة على قيمها وإنسانيتها الغالية. بهذه القرارات الحكيمة والناطقة صدقاً وعدلاً بحب الوطن ومن يعيش على أرضه تسقط ورقة أخرى قديمة يعود تاريخها إلى السادس من نوفمبر 1990م وتنطوي صفحتها وتستعيد المرأة أحد حقوقها المسلوبة ويستعيد المجتمع ملامحه الإنسانية المتسامحة.