-A +A
طارق فدعق
علاقة البشر ببعض الكراسي تستحق وقفة تأمل. أكتب هذا المقال جالساً على أحد الكراسي المفضلة في منزلي. وهو من الكراسي الخشبية العادية جداً ولا يعكس أياً من سمات الراحة. وارتباطي به هو أنني قمت بتركيبه قبل أكثر من ثلث قرن عندما كنت طالباً. وأعتقد أن هذا يضيف عنصر المغامرة للجلوس عليه لأنه قد ينهار بسبب توقعاته العمرية. المهم ذكره هنا هو أن «فخامة» الكراسي ليس بالضرورة أن تكون من انعكاسات جودتها وراحتها. التصميم الذكي هو العنصر الرئيس وأحد الأدلة على ذلك هو إقبال كبار المعماريين على تصميم كراسي لتحمل بصمتهم بنفس العناية التي وضعوها في تصميم المباني. وإليكم بعض الأمثلة: من أشهر الكراسي في العالم كرسي «برشلونة» الذي صممه المعماري الألماني الشهير «ميس فاندر روه» عام 1929. تصميمه يعكس المتانة والجمال، ويشبه بساعات «رولكس» اليوم في تميزها وانعكاس القدرات المالية لصاحبها. وتباع النسخ الأصلية منه بمبالغ خرافية تفوق بعضها أسعار شقق التمليك في وسط جدة. وعلى سيرة المبالغ الخرافية، فإن كرسي «ترنزات» Transat الذي صممته المعمارية ايلين جراي في عام 1927 يعتبر قمة الجنون. تم بيع أحد هذه الكراسي الأصلية في المزاد قبل نحو 7 سنوات بمبلغ يعادل مليون ريال.. وفوقها سعر سيارة «كامري». وكان إيحاء التصميم من كراسي الدرجة الأولى في شرفات البواخر العابرة للمحيط الأطلسي وكان هذا هو أساس الاسم Trans Atltanic. وعلى سيرة الإيحاءات، نجد أن أحد الأمثلة القوية هي كرسي «البيضة» من تصميم المعماري «آرني جايكبسون» عام 1958 فقد كانت فكرة تصميمه هي بيضة الدجاجة، ولذا كانت إحدى جوانب الإبداع فيه هي منحنياته الناعمة. وسعره اليوم للنسخ الأصلية يضاهي أسعار بعض العقارات الصغيرة. وكان يعكس المتانة والتصميم السهل الممتنع، وخفة الوزن أيضاً. ولنقف لحظة هنا لنركز على أهمية هذا الموضوع، فكلمة «موبيليا» اللاتينية معناها الأثاث، وهي مشتقة من المبدأ أن في الماضي كانت الغرف متعددة الاستخدامات فلم تكون مثلاً هناك غرفة للطعام، وأخرى للجلوس، وأخرى للعائلة وهذه إضافات تعكس البذخ الذي يعيشه العالم اليوم. وحيث إن المرونة في الاستخدام كانت من الأساسيات، فكان تحريك الأثاث من مكان لآخر بداخل المنزل من الضروريات، ولذا كانت خفة الوزن هي إحدى المتطلبات الرئيسة لأن كلمة موبايل mobile معناها «متحرك».

ومن أجمل أمثلة الكراسي ستجدها في عالم الفضاء والطيران: عند تصميم مركبة الفضاء التي هبطت على سطح القمر والشهيرة باسم «العنكبوت»، كانت إحدى أهم المتطلبات هي خفة الوزن. وقامت الشركة المصنعة «جرومان» بجهود جبارة لتحقيق هذا المطلب الأساس من خلال مجموعة من القواعد، ومنها الاستغناء عن الكراسي بالكامل لرواد الفضاء. وكان هذا منطقياً نظراً لأن المركبة استخدمت لرحلات قصيرة نسبياً كجزء من منظومة 3 مركبات من المدار حول القمر إلى سطحه ثم عودة إلى المدار مرة أخرى وبعدها كان يتم التخلص منها. وأما في عالم الطيران ففضلاً تأمل في الكرسي الذي ستجلس عليه في رحلتك القادمة وخصوصاً في الدرجة السياحية. قد تعتقد أنه من الكراسي الرخيصة غير المريحة، ولكن الواقع أنه «متعوب عليه»، فهو من أقوى الكراسي في قدرات التحمل، وهو أيضاً مقاوم للحريق لا سمح الله، وصمم لتحمل آلاف الاستخدامات بدون ملل أو كلل. ويتميز أيضاً بسهولة تنظيفه نظراً لاستخدام الجلود الجيدة لتغطية أسطحه.


أمنيـــة

يوجد ما هو أهم من كل هذا، وهو كراسي المناصب. والغريبة أن البعض ينسى أو يتناسى أن هذه الكراسي مؤقتة، وهي فرصة للخدمة وترك بصمات إيجابية لخدمة البشر. البعض يتمسك بها وكأنها أملاك خاصة مكتسبة علماً بأنها دوارة ولا تدوم. فلا دوام إلا لله عز وجل، وهو من وراء القصد.

* كاتب سعودي