-A +A
طلال صالح بنان
في السياسة، أحياناً: ما يُفْصِحُ عنه الصمت أشد وضوحاً وبلاغةً مما قد يُظهره الكلام. وفي فن الدبلوماسية: ليس إخفاء ما يُكره الإفصاح عنه علناً، يكون أقل جدارة في الوفاء بالغرض منه، من ذلك الذي يُباح به جهراً. فزيادة غموض ما هو معلنٌ ومعروفٌ، يقيناً، أكثر فاعلية من تكرار تأكيد التمسك به، الذي لربما لا يعكس حقيقة توجهات صانعي السياسة الخارجية.

مبدأ العلنية في السياسة الخارجية، رغم أهميته التحليلية، في فهم وتوقع حركة السياسة الخارجية لدولة ما، إلا أن الأمر لا يقتضي، في كل الأوقات، حصر توجهات السياسة الخارجية للدولة، في ما هو معلنٌ رسمياً من قبل مؤسسات ورموز السياسة الخارجية. كما لا يفيد في عملية متابعة حركة السياسة الخارجية، ولا حتى في عملية استشراف وتوقع ردود الفعل تجاه التطورات على الساحتين الدولية والإقليمية، في ما يخص الموقف من قضية ما سبق وأعلن عنها، وكأن الأمر محسوم وقاطع الدلالة بشأنها.


لذا: كثيراً ما يُفاجأ المتابعون لسياسة دولة ما الخارجية تجاه قضية من القضايا الدولية والإقليمية، بمؤشرات لسلوكيات وتوجهات غير معتادة، دونما يعني ذلك بالضرورة، أن تحولاً حدث أو يحدث أو في صدد حدوثه، لموقف الدولة المعلن رسمياً من تلك القضية. حتى أنه من الناحية التحليلية البحتة: يصعب متابعة أي تحول في السياسة الخارجية لدولة، تجاه قضية ما على المستوى الخارجي، انتظاراً لإعلان رسمي صريح بحدوث مثل ذلك التحول.

إذن: القول بضرورة الأخذ بمبدأ العلنية لتحليل السياسة الخارجية لبلد ما، بالرغم من وجاهته الأكاديمية، إلا أنه لا يفيد - في كثيرٍ من الأحيان - لفهم واستشراف حركة السياسة الخارجية لتلك الدولة ومتابعة تطوراتها. بالعكس: أحياناً، ما تُستقى إرهاصات التحولات في السياسة الخارجية لدولة ما تجاه قضية من القضايا الخارجية، بمؤشرات تصدر بصورة غامضة ومن فعاليات بعيدة كل البعد عن مؤسسات صناعة السياسة الخارجية الرسمية. صحيح أن التحول من موقف ما إلى موقف آخر تجاه قضية من قضايا السياسة الخارجية للدولة، يحتاج في النهاية إلى إعلان رسمي يتوج ذلك التحول، إلا أنه في كل الأحوال، لا يمكن إهمال مؤشرات التحول غير المعلنة رسمياً، حتى ولو جرى نفيها رسمياً وعلناً.

من هنا: فإن كل التحركات غير الاعتيادية.. والاتصالات غير المباشرة.. والتقارير الصحفية.. والتسريبات الاستخباراتية، حتى مع محاولة نفيها رسمياً، يمكن من الناحية التحليلية، استخدامها لتوقع أو استشراف تحول تجاه قضية ما لدولة، عرف عنها موقفاً رسمياً معلناً تجاهها، لكن بتحفظ تفرضه قواعد التحليل العلمي الرصينة، التي تأخذ بالمتغيرات الكمية التي يمكن قياسها فقط، لا بـ«النوايا الغيبية» ولا التخمينات التحليلية، التي لا يمكن تلمسها وقياسها كمياً، أو إسنادها إلى معلومات موثقة. هنا يكمن الخيط الرفيع بين الإشاعة والحقيقة. أي توقع بزعم تحول ما في السياسة الخارجية لدولة ما، لا يدعمه دليل كمي ملموس على أرض الواقع.. أو معلومات موثقة قاطعة صحتها، ربّما يتضح لاحقاً أنه ليس سوى مجرد تسريبات المقصود به إرسال رسائل لجس النبض، لقياس ردود الأفعال المتوقعة، لا لإحداث ذلك التحول، بالفعل.

هنا: يأتي دور الدبلوماسية في بعث رسائل توحي بتحول ما تجاه قضية دولية أو إقليمية، معلناً رسمياً عن موقف الوحدة الدولية تجاهها.. بل وإصرار دبلوماسيتها على التمسك بهذا الموقف المعلن وعدم التفكير في التخلي عنه.. الأمر الذي قد تفرضه مصالح الدولة العليا.. وقد يخدم إستراتيجية عليا. على سبيل المثال: يسود الكثير في الأوساط السياسية والإعلامية والعسكرية، بل حتى الأوساط الأكاديمية التي تتجاوز أحياناً المعايير العلمية المهنية الرصينة، الاعتقاد، الذي يصل أحياناً، لحد الجزم: أن إسرائيل تمتلك سلاحاً نووياً.. بل إنها تمتلك 300 رأس نووي!؟

رسمياً: إسرائيل تنفي ذلك وبشدة.. بل وتعلن أنها لن تكون أول من يُدخل السلاح النووي للمنطقة. تفسير سلوك إسرائيل هذا يرجع لأسباب كثيرة، من أهمها: عدم إحراج حلفائها الدوليين، الذين قد يكونون يعرفون الحقيقة، لكن متغيرات داخلية وخارجية، تمنعهم من استمرار دعمهم لإسرائيل، إذا ما أعلنت إسرائيل رسمياً امتلاكها للسلاح النووي.. أو صدر عن إسرائيل دليل مادي، يفصح عن إمكاناتها النووية، كإجراء تجربة قنبلة نووية. إسرائيل من جانبها، في صالحها أن يسود الاعتقاد لدى جيرانها بأنها تمتلك الرادع النووي، دونما حاجة لإحراج الإعلان عن ذلك، طالما أن ذلك الاعتقاد يعزز، سياسياً وإستراتيجياً، عامل الردع الكامن في «إشاعة» أو «حقيقة» امتلاكها للسلاح النووي.

سأل يوماً عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية السابق شيمون بيريز أن يزور وفد من الجامعة مفاعل ديمونة في النقب، من أجل إزالة الغموض عن برنامج إسرائيل النووي وطمأنة العرب بأن إسرائيل، كما تعلن رسمياً، لا تمتلك السلاح النووي أو تعمل على امتلاكه. رد عليه بيريز بخبث السياسي الماكر: سعادة السفير، الغموض في مثل هذه الحالات مطلوب... مُلَمِّحَاً: من قال إن إسرائيل تريد طمأنة العرب، أصلاً.

الغموض البناء، إذن: أمضى أدوات الدبلوماسية، كونه لا يتعارض مع ما هو معلنٌ رسمياً كسياسة خارجية للدولة.. ويحقق أهداف السياسة الخارجية بالتحكم في سلوكيات الأطراف الدولية، إما بالتعاطف مع ما تتبناه الدولة من قضايا خارجية خدمة لمصالحها الوطنية وأمنها القومي.. أو لردع أعدائها وخصومها الإقليميين والدوليين، إستراتيجياً.

talalbannan@icloud.com