-A +A
إدريس الدريس
لو استقبلت من أمري ما استدبرت لكنت داومت على ممارسة لعبة البلوت وحافظت على لياقتي الذهنية في تكتيك هذه اللعبة بما يمكنني من معرفة خطط تهريب الورق وإرسال الإشارات والإيحاءات التي تساعد رفيقي المقابل في إدراك ورطتي ومعرفة «الزات» الذي يفترض يجيني فيه ليمهد لي الطريق لتقشيط ورق الخصوم.

وكم كنت أتمنى أن لدي القدرة الآن للحصول على فرصة المشاركة في مسابقة «البلوت» التي ينتظر أن تقام قريباً حيث تم رصد جائزة نصف مليون ريال للفائز الأول ومن يدري ؟ فلعلي أكون الأول وأكسب الدراهم، لكن سامح الله من تسبب في تبطيلي واعتزالي ممارسة اللعبة بسبب عدم التوافق غالباً مع مزاج اللاعب المقابل.


والواضح أن بداياتي المبكرة هي السبب في انصرافي تالياً عن الاستمرار.

وقد بدأت حكايتي مع البلوت كالتالي: تعلمت شروط اللعبة «شفهيا» من خلال متابعة اللاعبين المخضرمين من شياب العائلة والجماعة وكنت أتحمس وأنجذب كمشجع لانفعالاتهم وكنت أتلصص بالنظر إلى ما في أيديهم من كروت قوية أو ربما ضعيفة وهي تأتي إما من خلال «الرص» أو من خلال المصادفة بحيث يتوفق أحد الفريقين في الحصول على «الأربعمئة» أو «المئة» أو «

الخمسين» أو «السرا» اللي يبيض الوجه وتبقى المهارة في قراءة ما لدى الشريك والتي تصل علاماتها تباعاً خلال اللعب أو من خلال استراق النظرات ومتابعة حركة الحواجب وإبداء الرضا أو إظهار التمعر بما يشي بالمطلوب كما أن بسط الفريق الخصم لورقهم وما يتبع ذلك من مشاريع يأتي كمساعد على كسب الجولة والبلوت لعبة تعتمد بنتيجتها على مهارة تصريف الورق إلى جانب حظك وما يصلك من ورق بعد «خبصها»

لكن بداياتي المبكرة في اللعب إلى جوار المحترفين هي ما دفعني للاعتزال المبكر ففي ليلة غاب أحد أضلاع فريق المحترفين الكبار سناً فالتفت خالي وهو أحد المحترفين الذين لا يشق لهم غبار ودعاني لمقابلته واللعب إلى جواره وكان خالي هذا رجلاً جاداً ومهاباً ولم أكن لأرفض له هذا الطلب رغم رغبتي رفض دعوته لكنني مع ذلك قابلته وتم توزيع الورق وكان في يدي ورق جيد نسبياً «للصن» لكنني ترددت وارتبكت مع نظرات خالي.

بدأ اللعب وفاز الخصوم بهذه الجولة لأنهم اشتروا «حكما» قويا ثم لامني خالي بشدة وهو يرى مكامن القوة في يدي وأنني لم أشتر كما كان يجب وفي الجولة الثانية زادت وتيرة الارتباك عندي بحكم ما حدث فاشتريت حكماً بدون «التسعة» مع توفر «مئة» لدى الفريق الخصم ففازوا بالثانية وفي الثالثة شعرت بمزيد من الحرج مع نظرات السخط من خالي وارتفعت درجة حرارتي واختنقت أنفاسي ولم أتنبه لرسالة خالي وهو ينزل «الديمن» وينتظرني أن أفرش له الأرض ليكسب باقي الجولة لكن لم يكن طلبه في يدي وكان أحد الخصوم يتقاسم معه «الديمن» مما مكنهم من تخسيرنا.

لم يحتمل خالي وجودي معه خاصة مع توالي ضحك الخصوم وتعليقاتهم وتريقاتهم فتوقف عن إكمال اللعب لعدم التكافؤ ثم نظر إلي متسائلاً الله يصلحك وراك كذا ؟ ولم أقل له أن هيبتك اربكتني لكنني احتججت بسوء الورق في أيدينا، لكنه رد علي: خير إن شاء الله سلم لي على أختي.

في الليلة التالية حضرت لنفس المجلس وكان العدد مكتملاً لكن أحد اللاعبين فضل أن يشاهد مسلسل «راس غليص» على لعبة البلوت فاضطر رفيقه الشيخ الكبير للاستعانة بي لمقابلته وتكميل فريق الأربعة.

تمنعت بل رفضت وادعيت عدم إجادتي اللعبة، لكنه أصر علي ولزم.

فقابلته وهو كما كنت أعرفه في الغالب رجلاً لطيف المعشر يهش ويبش عند مقابلتي في المناسبات الاجتماعية لكنه في البلوت ظهر كرجل مختلف المزاج فهو من الزمرة الذين يدخلون اللعبة كفارس يخوض معركة الكرامة معتبراً أن الهزيمة مساس وجرح لقدراته.

بدأت اللعبة ومرت الجولة الأولى بسلام وفي الثانية علا صوته وارتفعت درجة التحدي وبدأ يحلف ويطلق العهود بأن يفعل ويفعل لو فاز الخصوم ومع ارتفاع حدة التنافس وسخونة المنافسة نسيت أن أنزل «الخمسين» التي كانت رابضة بين يدي.

سألني محتداً لماذا لم تفرش الخمسين قلت له: نسيت سألني مستنكراً: لا يا جنط ؟ لم يكمل كلامه ورمى بالأوراق في حضني وهو يتحلطم ويردد: البلوت مهيب لعبة بزران.

ومن ذلك الحين وأنا أتردد في المشاركة في لعبة البلوت ولم أكن لألعب إلا بعد قراءة السيرة الذاتية لمن سيقابلني وكنت أحرص على معرفة مزاجه ودرجة عصبيته وكم تشكل لعبة البلوت في معيار كرامته وهل هو من أولئك الذين يدخلون اللعبة كمعركة فاصلة لتصبح مجالاً لتفريغ شحناته النفسية ؟!.

حدث ذلك منذ عقود ولهذا لا أجد في نفسي حالياً اللياقة المستوفاة شروطها للمشاركة في بطولة البلوت القادمة كلاعب، لكنني مع ذلك لن أتخلى عن حقي في أن يقام لي حفل اعتزال يدعى له نخبة لعيبة البلوت في المملكة وسيسعدني أكثر استقبال الهدايا المادية والعينية في حفل الاعتزال علماً أنني أعتذر بشدة عن قبول الهدايا الخشبية وأعني بذلك الدروع التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

IdreesAldrees@