-A +A
علي مكي
أعرف «مشعل السديري» منذ مطلع الثمانينات الميلادية عندما فتحتُ عيني على الصحافة السعودية فوجدته كاتباً مختلفاً بأطروحاته الثقافية المتقدمة والتي تقاوم الرجعية والثبات والسكون. وكان هذا الشاب القادم إلى هذه الحياة الدنيا بطريقة غير تقليدية، قد ولد في بيت من الشعر في صحراء الله الواسعة، وكان لزاماً على والدته أن تموت في نفس اللحظة التي أطلق فيها صرخة البكاء الأولى عندما وضع قدمه على عتبة الحياة. وعلى الرغم من كل هذا الغموض في مقتبل حياته فكونه لا يدري في أي أرض سيموت فإنه لا يدري أيضاً في أي أرض ولد، وقد قال لي في لقاء جرى ونشر قبل 22 عاماً في هذه الصحيفة «هكذا ترى أن الغموض يلف بداياتي ونهاياتي، وانعكس ذلك كله على بقية حياتي». غير أن توجهه الثقافي الحديث كان واضحاً دون أي لبس أو غموض، وكان من أوائل المثقفين الذين طرحوا رؤاهم المتجاوزة منذ وقت مبكر وكان يطالب بأن تتجه البلد في تعاملها مع الواقع السياسي والاجتماعي وفق ما نراه اليوم من انفتاح كبير نحو الحياة ومباهجها وأنوارها ولطائفها التي لا تخرج أحداً من دينه أو قومه، بل هي الحياة التي حثنا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام على حبها بالتعامل الكريم مع أناسها بغض النظر عن أنسابهم أو ألوانهم أو ثقافاتهم.

أقول كل هذا وأتذكر صديقنا وأستاذنا الكبير مشعل السديري بعد أن استمرت حياته مع «الفقد الأليم» بعد عامين من رحيل زوجته رحمها الله، ليفقد قبل أيام ابنته «العنود» ذات الثلاثين ربيعاً في لحظة صادمة لوالدها قبل أي أحد، إذ لحقت بأمها قبل أن تكمل سنتين، وهو شيء لم يتحمله قلب «مشعل» لحظة علمه بالنبأ فظل ساعات يعالج بالنعاس والمهدئات، وهو الذي فقد أيضاً قبل فقده لابنته بأربعة أعوام وزوجته بعامين، فقد أخاه الدكتور سلمان السديري عام 2013، رحمهم الله جميعاً.


وإذ أكتب عن «مشعل» اليوم، فإنني لا أكتب معزياً فقط، ولا مترحماً على ابنته التي يذكرها كل من يعرفها من النساء بالخير والنور حتى أن مقبرة الرويس لم تشهد حضوراً نسائياً بذلك العدد الكبير في تشييع أحد الموتى من قبل، وهو شيء يبذر قليلاً من المواساة والعزاء في قلب والدها وأسرته الكريمة على الرغم من هول المأساة وجحيمها الفظ داخل الروح.

أقول لا أكتب هنا في «عكاظ»، أي في نفس الصحيفة التي خطّ على صفحاتها كاتبُنا الكبير أجملَ وأصدق وأجرأ وأعند وأشرس وألطف حروفه وكلماته وسطوره ومقارباته ومشاكساته وتقلباته ودرامياته التي لا تشبه سوى مشعل السديري وتفرده المستحيل. وإذ أذكّر بمرحلة «مشعل» في عكاظ، بدءاً من مطولاته في الصفحة السابعة التي كان يتناوب على كتابتها مع مجموعة من ألمع كتاب جيله حينذاك، ثم «محطات القوافل»، كما يسميها، والتي فضلت «عكاظ» أن تكون بشكل يوميّ في صفحتها الأخيرة، فكان قراء الجريدة يبدأون بقراءة الصحيفة من الخلف وتحديداً يستريحون في محطات قوافل مشعل السديري، على الرغم من أنها لم تكن تحمل الظلّ أو الترفيه، مقدار ما كانت صرخة إنسان يدافع عن المظلومين والبسطاء والمساكين الذين لا ظهر ولا معرفة ولا شفيع لهم أمام الوجهاء وعلية القوم وبعض المسؤولين المتفردين بالقرار المتسلط على رقاب الناس وصحتهم وتعليمهم وخدماتهم، بل في كل مجال، فكانت كلمات «مشعل» جسرهم الآمن والصادق نحو صاحب القرار، ولهذا ظل الناس أوفياء لكلماته التي عندما يغيب صاحبها في إجازة أو ظرف يقل توزيع الصحيفة حسب الدراسات والمقاييس الرقمية توزيعاً وتسويقاً في تلك الفترة التي كنت شاهداً عليها، إذ كنت ابن المطبخ الصحفي لعكاظ أيام مجد الصحافة الورقية في منتصف الثمانينات والتسعينات الميلادية، وهو ما يدلّ على أن مشعل السديري لم يكن هو النجم لوحده فقط، بل كان الهمّ الإنسانيّ ذاته ترافقه النجوميّة ذاتها.

ترى كيف سيتعامل مشعل السديري مع ظرف قاس مفاجئ ومؤلم كالموت؟ ألم يقل لي مرة إن تعامله مع الظروف هو تعامل المصدوم والمتوجس لأن لعبة الظروف هي لعبة خطرة وليس فيها شرف الفروسية النبيل، لأنها لا تعطيك إشارة البدء، ولا تلتزم بالأصول، وقد تضر بك في مقتل أنت لا تتوقعه.. من هنا كان مفروضاً عليه أن يواجهها بأسلحتها وأساليبها.. فلم يكن يملك غير الهجوم وسيلة، مستخدماً كل أسلحة السخرية والحزن والهجاء وحتى الفضائح!

إنني أزعم أنني أعرف ما يضايق ويتعب صديقي «مشعل»، سواء قديماً أو اليوم، إن ما يضايقه ويتعبه هو صمت الكلام لا كلامُ الصمت! وهو الذي قال لي أيضاً: «الحياةُ يا رفيقي تطرحني كلّ صباح، وأنا بدوري أطرحها كل مساء، فلا هي أرهقتني ولا أنا شبعتُ منها.. فاذهب وقل للناس جميعاً: هناك رجل يُقال له مشعل، يفقدُ نصف عقله كل صباح، ويقتل النصف الآخر كل مساء.. وينامُ بدون غطاء وهو (خالي الوفاض).».

إنه الموت، أي الفقدُ العظيم، ذلك الواقعُ الأليم الذي تتقزمُ أمامه الشهرة والجاه والمال، بل الحياةُ كلها، بكامل عنفوانها، تذلّ أمام الموت والفقد الأليم.

ali_makki2@