-A +A
محمد الساعد
لكي نفهم المشهد في الشرق الأوسط أكثر، علينا أن نخرج من صندوق «الخريف العربي»، وكل ما رافقه من ضخ إعلامي وجماهيري مزور بعيدا عن الحقيقة المخابراتية والمصالح الاقتصادية العظمى، لقد كان مشهدا مصنوعا بامتياز.

منذ بدء الخليقة ومعظم الحروب والمؤامرات والتحالفات تدور حول «الاقتصاد» من صراعات حول المراعي والمياه، وانتهاء باستعمار من أجل الموارد الطبيعية.


بدأت الحكاية مبكرا، وتحديدا في العام 2006، مع أول زيارة للمستشارة الألمانية السيدة إنجيلا ميركل لروسيا، حينها تلقى الألمان صفعة قوية في موسكو، ووجدوا أن البلد المرهق من تبعات تفكك الاتحاد السوفيتي بدأ بالتعافي، والتحول لعملاق دولي له طموحاته وطلباته التي يفرضها فوق طاولة الاجتماعات على الألمان وغيرهم، أليس هو من يستطيع إغلاق أنبوب الغاز صباحا فيموت الألمان مساء.

طلبت ميركل فور عودتها للعاصمة الألمانية من فريق عملها البحث عن بدائل سريعة للغاز الروسي، كانت تستشعر الخوف والقلق من أن تصبح الأمة الألمانية رهينة قرار الكرملين.

كان أقرب مصادر الطاقة وأغزرها هو الغاز «القطري»، الذي تحكمه مستوطنة بشرية لا تتعدى 100 ألف، ليس لديهم لا الفكر السياسي ولا الاستقلال، ولا القدرة على الوقوف في وجه الغرب.

بدأت في إحدى المدن الألمانية النائية اجتماعات عاجلة ومكثفة بين الألمان والقطريين أولا، ثم انضم إليهم لاحقا الفرنسيون والأتراك والإيرانيون والأمريكان، الإيرانيون لأنهم شركاء في أكبر حقول الغاز في الخليج العربي مع القطريين، والأمريكان لأنهم كانوا يخشون فعلا من تعاظم الروس.

هدفت الاجتماعات لبناء مشروع طاقة بديل، يبدأ من الخليج العربي وينتهي في أوروبا، قدر له 10 سنوات حتى يمكن معه إيصال الغاز القطري إلى المصانع والبيوت الأوروبية.

تصورت الخطة أن مد أنابيب الغاز من الحقول المشتركة بين القطريين والإيرانيين لتعبر السعودية ثم الأردن ثم سورية ثم تركيا إلى أوروبا عبر الجانب الأوروبي التركي ستكون سهلة، وإن قليلا من القفزات السياسية وحب الخشوم يمكن أن يقنع الدول، وتلغي مصالحها من أجل عيون القطريين والألمان.

أخذ القطريون على عاتقهم القيام بحملة علاقات عامة لتمهيد وإقناع أهم الدول في طريق الأنبوب، خاصة أن الرياض ودمشق هما الأصعب، ولكل منهما أسبابه.

السعوديون ينظرون للأمر بحذر، وإلى أنه سيؤثر على اقتصادهم وإنتاجهم للغاز، وثانيا أنه لم يتم إشراكهم في المباحثات، والسوريون لديهم مخاوف قديمة من الغرب، وعلاقات إستراتيجية مع الروس، ثبتت دقتها في التدخل الروسي لاحقا لحماية النظام من السقوط.

قسمت قطر الملف وتعاملت مع السوريين من خلال ما يسمى بمحور الممانعة، وكبت الدوحة مليارات الدولارات في الاقتصاد السوري وأغدقت على القيادة السورية وحلفائها في طهران والضاحية الدعم الإعلامي والسياسي والمالي.

وفي جانب الرياض، بدأ القطريون بسياسة حب الخشوم، وتخفيف الحملات الإعلامية والدعايات المسمومة ضد المملكة، وعملت على إنشاء سياسات ناعمة، تستطيع أن تستقطب بها مزاج الشارع السعودي، إلا أن ذلك لم يقنع الرياض، بل تشككت في نوايا المشروع، وصح بالفعل ما توقعته.

العام 2009 بدأت الدوحة مفاتحة السوريين برغبتها في مد خطوط الغاز عبر سورية إلى ميناء طرطوس وإلى تركيا، ليكون بديلا للغاز الروسي.

لم يستسغ السوريون الفكرة، على الرغم من العلاقة الحميمة بين الطرفين، وطار بشار إلى موسكو مبلغا الروس بالخيانة القطرية للاقتصاد الروسي.

خلال أشهر فقط، انتقل «حلف الغاز المكون من قطر، فرنسا، ألمانيا، أمريكا» إلى ما يسمى بالربيع العربي، الذي هدف لجملة من المكاسب، لعل أهمها هدم الدول القائمة وإعادة بناء الشرق الأوسط من جديد، بمقاييس المستعمر وعملائه القطريين والإخوان المسلمين، ليكون مستودع المال الذي تستطيع معه القارة الأوروبية العجوز استرداد أنفاسها بعد 100 عام من حروب الاستقلال.

بدأ الربيع في تونس، إلا أن هدفه الكبير كان مصر وسورية ثم السعودية، حاول القطريون إشعال الشارع السعودي في أكثر من مرة، إلا أنهم فشلوا، ونجحوا في الشارع السوري، وتم دفع الأطراف لاقتتال دام، عبر مئات التنظيمات لهد الدولة السورية وتسهيل قيام حكومة إخوان مسلمين في دمشق، تتحالف مع الأتراك لتمهد الطريق أمام الغاز القطري.

ولذلك كله، يجب فهم هذا الدلال الذي تتمتع به الدوحة وطهران في أروقة السياسة الألمانية والفرنسية والغرب عموما، في مقابل خشونة غير مبررة مع الرياض، تأتي بسبب الاقتصاد الأوروبي المنهك، الذي يبحث عن استعمار جديد، وجده في الدوحة ولم ولن يجده في الرياض.