-A +A
محمد مفتي
منذ قرابة عام ونصف وتحديداً في 22 شعبان 1437 تناولت في زاويتي هنا بصحيفة «عكاظ» مقالاً بعنوان «آثارنا في الخارج»، تطرقت خلاله لمتحف طوب قابي سراي، الذي اعتبر مركز الحكم للسلاطين العثمانيين طيلة 4 قرون كاملة، والذي يضم داخل أجنحته الواسعة والفاخرة الآثار المنقولة من المدينة المنورة إلى إسطنبول طيلة فترة الحكم العثماني للمنطقة، وقد جاهدت كثيراً وبشتى الطرق صياغة المقال بدبلوماسية – بعيداً عن التهكم - لكي أتمكن من عرض قضية الآثار النبوية المستلبة من المملكة إبان تلك الفترات المظلمة من تاريخها، وهي محاولات أظنها مشروعة تماماً ويؤيدها العرف والقانون الدولي، والذي يلزم المحتل بإعادة ما تم احتلاله خلال فترة الاحتلال، ولا سيما لو كان ما تم نهبه إرثا وتراثا تاريخيا يخص الشعوب والأجيال القادمة.

يؤسفنا حقاً أن نرى بعض المسؤولين الأتراك وهم يتفاخرون بأمجاد الدولة العثمانية البائدة ويتغنون بسلوكياتها الغابرة مع الشعوب التي سيطرت عليها، وفي واقع الأمر هذا التباهي غير المبرر يطرح تساؤلاً جوهرياً فيما إذا كان المقصود منه هو استعراض القوة واستدعاء الاستعلاء التاريخي أم هدفه الاعتراف بارتكاب جرائم في حق شعوب المنطقة يمكن أن ترقى لمرتبة جرائم الحرب، وبغض النظر عمن قام بارتكاب تلك الجرائم من حكام وسلاطين فنوا وسطر التاريخ جرائمهم للأجيال التي يلي بعضها البعض، فإن ورثة هذا الإرث الإجرامي غير معفيين من المساءلة القانونية عما اقترفته أيدي أجدادهم، وعلى أقل تقدير توقعنا أن يلتزموا الصمت وتعلو وجوههم حمرة الخجل من التطرق لمثل تلك الأحداث التاريخية.


قد يرى البعض أن الإرث الذي تركته الدولة العثمانية ليس بهذا السوء، ولكن دعونا نسأل هؤلاء: هل خلفت الهيمنة العثمانية على شبه الجزيرة العربية وراءها رغداً اقتصادياً أو بنية حضارية أو مجتمعاً مثقفاً؟ دعونا نلق نظرة سريعة فقط على جانب التعليم الذي أهمله العثمانيون تماماً، بل عمدوا إلى تجهيل شعب المنطقة عن عمد؛ حيث كان أقصى ما يتم السماح به خلال تلك الحقبة هو الحصول على التعليم الابتدائي، وذلك في الوقت الذي كانت تزخر فيه دول العالم المختلفة بالمدارس والجامعات، والأدهى من ذلك أن عدد تلك المدارس الابتدائية لم تكن تصل لعدد أصابع اليد الواحدة، أما نظام التعليم المنهجي فكان أشبه بالكتاتيب!.

عندما وحد الملك عبدالعزيز المملكة، عقب انحسار نفوذ الدولة العثمانية إلى غير رجعة، هالته حالة القهر التي يعيش فيها شعب المملكة إبان الحكم البائد، وأفزعه مقدار التخلف والتردي الذي يغلف حياتهم، لم يجد الملك عبدالعزيز أي شيء ذا قيمة تركته الدولة العثمانية يمكن أن يفيدهم على أي مستوى، فلا توجد جامعات، ولا يوجد معلمون ولا أطباء ولا مهندسون، لم تكن هناك بنية تحتية ولا صحية ولا تعليمية أو حتى مواصلات، وهو ما حدا بالملك عبدالعزيز- رحمه الله - لأن يبدأ في تأسيس نهضة بالمملكة على جميع الأصعدة، بدءاً من نقطة الصفر فعلياً، بدأ بالصحة والتعليم أولاً فأسس مدرسة تحضير البعثات لتأهيل المواطنين للسفر للخارج والعودة لخدمة بلادهم ومواطنيهم، ومنذ تلك اللحظة ووتيرة التنمية والتقدم تتوالى وتطرد وتنمو في المملكة حتى لحظتنا الراهنة، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن بفضل الله.

نريد من السيد أردوغان، الذي لا يزال يعيش أحلام اليقظة، أن يلقي نظرة على المملكة الآن، لينظر إلى عدد المدارس التي وصلت لمئات الآلاف في جميع مدن وقرى المملكة، لينظر إلى عدد الجامعات التي تجاوزت عشرات الجامعات، لينظر إلى قطاع النقل وشبكات الطرق، لينظر إلى القطاع التصنيعي الذي تطور كماً وكيفاً، وباتت الصادرات السعودية يتوسع مداها شيئاً فشيئاً حتى تجاوزت المدى الإقليمي إلى المدى العالمي، لينظر إلى عدد حملة الماجستير والدكتوراه وأعضاء هيئة التدريس، فخلال 85 عاماً تأسست المملكة وتطورت حتى وصلت لمدى لم تصله الدولة العثمانية ذاتها خلال قرون حكمها الأربعة.

لقد اجتهدت الدولة العثمانية لكي تحرم هذا الشعب من أن يكون أبناؤه قادرين على حمايته من غدر الأعداء، وقررت أن تهمشه وتستخف به وبمقدراته، فحرمته من تأسيس الكليات العسكرية كما حرمته من أن يكون له جيش مستقل، ليظل بذلك تابعاً لها طول الوقت، فلينظر السيد أردوغان للكليات الأمنية والعسكرية في المملكة، لجيشها وقواها الأمنية وأجهزة استخباراتها ودرجة جاهزيتها، لقد أصبح المواطن قادرا على الذود عن ممتلكاته وعن أرضه وتاريخه وعن حياته، لقد تطور المجتمع كثيراً وبوتيرة أسرع من المتوقع، ولا يعني هذا بطبيعة الحال خلو المجتمع من الظواهر السلبية وبعض المشكلات، فنحن لسنا مجتمعا من الملائكة، ولكن المهم هو حجم الإنجاز ومقارنته بحجم السلبيات، والأهم هو امتلاك آليات التصحيح والقدرة على التنفيذ والإصرار على النجاح رغم الصعاب، فإن أراد ورثة العثمانيين توجيه سهام نقدهم وقدحهم لنا فنحن على أتم استعداد لتقديم كشف حساب كامل عما اقترفوه في حقنا وعما قدمناه نحن لبلادنا في المقابل، ولكم تمنيت أن أكون مجيداً للغة التركية لأقدم كشف الحساب هذا للمنصفين منهم، وأنا على يقين من أنهم سيقفون إجلالاً لإنجازاتنا ويرددون مقولتهم الشهيرة «تمام أفنضم !».