-A +A
نجيب يماني
احتشد خطاب خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - الذي ألقاه منتصف الأسبوع الماضي، في افتتاح أعمال الدورة السابعة لمجلس الشورى، برسائل عديدة، بعضها ظاهر للعيان، وبعضها يقرأ ما بين السطور لمن له قلب وجَنان يعي.. فقد جاء الخطاب في ظلّ ظروف بالغة التعقيد، واستقطابات حادة، تلعب فيها بعض الآلات والأبواق الإعلامية بأجنداتها المختلفة دورًا واضحًا في التجييش ضد المملكة وقيادتها الحكيمة، وتسعى بدأب لا تحسد عليه لطمس جهود وطننا بشكل مستفز، يكشف عن طوايا سقيمة، يملؤها الحقد على وطننا الذي أكرمه الله بالأمن والاستقرار في ظل قيادته الواعية الرشيدة.. ففي ظل كل هذه التداعيات «الغريبة» جاء خطاب خادم الحرمين الشريفين، أيده الله، موجّهًا إلى الداخل، فيما يتصل بالحرب على الفساد، بلغة حازمة، تتساوق معنًى ومبنًى مع الخطوات العملية التي اتخذتها المملكة سلفًا في هذا المجال، بما أشاع الارتياح في مفاصل المجتمع، خصوصا أن هذه الحملة تستهدف المفسد «كائنًا من كان»، وفي هذه العبارة ما يرسّخ قيم العدل، ويجعل الناس سواسية أمام القانون، ولهذا جاء التفاعل مع هذه الحملة قويًا، ومسنودًا من كل قطاعات المجتمع، لما ينطوي عليه الفساد من مخاطر جمّة، أوضحها خادم الحرمين الشريفين في كلمته الضافية الوافية، تمام الإيضاح، حين قال: «إن الفساد بكل أنواعه وأشكاله آفة خطيرة، تقوّض المجتمعات، وتحول دون نهضتها وتنميتها، وقد عزمنا بحول الله وقوّته على مواجهته بعدل وحزم، لتنعم بلادنا بإذن الله بالنهضة والتنمية التي يرجوها كل مواطن، وفي هذا السياق جاء أمرنا بتشكيل لجنة عليا لقضايا الفساد العام برئاسة سمو ولي العهد، ونحمد الله أن هؤلاء قلّة قليلة».

ثم كانت الإلماحة الأخرى إلى خطر التطرف، الذي لا يقل خطرًا عن الفساد بوجه من الوجوه، لما ينطوي عليه من تلغيم العقول، وبثّ الأفكار المسمومة، واستلاب أبنائنا، بما يعني رهن المستقبل لثقافة الموت، وروح الكراهية، لهذا جاءت الإشارة إلى هذا الخطر الماحق واضحة في خطاب خادم الحرمين الشريفين، بمواصلة المملكة نهجها المعروف عنها في هذا الصدد، والمتسم بالحزم والعزم والمواجهة التي لا هوادة فيها أمام طوفان الغلو والتطرف، الذي تصدّره دول بعينها وتستهدف به أمن وسلامة المجتمع السعودي، فجاءت كلمات الملك سلمان في هذا الصدد، موجهة في الأساس إلى من «يهمه الأمر» في البعيد، وما زال دأبه تحريك أذنابه في الداخل، فكِلا المُحرِّض والمُحرَّض ليس لهما إلا المواجهة الصارمة الحازمة، وقد أكدها «سلمان الحزم» في خطابه بقوله - أيده الله -: «ورسالتنا للجميع أنه لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالاً، ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحل يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال واستغلال يسر الدين لتحقيق أهدافه، وسنحاسب كل من يتجاوز ذلك، فنحن إن شاء الله حماة الدين، وقد شرفنا الله بخدمة الإسلام والمسلمين»..


ولما كانت القدس هي قضية المملكة المركزية، بما هو محفوظ ومعروف في الوثائق والمواقف التاريخية للمملكة، بلا مزايدة أو تنطع أو ادعاءات جوفاء، فقد كان من المتوقع والطبيعي أن يتضمن خطاب خادم الحرمين الشريفين تثبيتًا لهذا الموقف المبدئي تجاه هذه القضية في ظل المستجدات التي حدثت بعد إعلان الإدارة الأمريكية قرارها المجحف الأخير بنقل سفارتها إلى القدس، في إشارة رامزة للاعتراف بها عاصمة للكيان الصهيوني، وما تبع هذا الإعلان من محاولات أبواق إعلامية مكشوفة النوايا تشويه مواقف المملكة وقيادتها، ولهذا جاءت كلمات الملك سلمان في هذا الصدد قوية بما يكفي، وكاشفة للنوايا المفخخة التي تحاك ضد وطننا، حيث قال: «.. دعت المملكة إلى الحل السياسي للخروج من أزمات المنطقة وحلّ قضاياها وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، واستعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه المشروعة بما في ذلك حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. وفي هذه المناسبة أؤكد استنكار المملكة وأسفها الشديدين للقرار الأمريكي بشأن القدس، لما يمثله من انحياز كبير ضد حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والثابتة في القدس التي كفلتها القرارات الدولية ذات الصلة، وحظيت باعتراف وتأييد المجتمع الدولي».

على هذا الإيضاح الذي لا لبس فيه، إلا لمن ركب مطية الهوى والغرض، جاء التأكيد على موقف المملكة الثابت والراسخ، بلغة شفافة، ومباشرة، دون ادعاء وتزييف، ودون محاولات التخوين والتجريم التي ظلت المملكة تتعرض لها طوال الأيام الفائتة، وهي ذات الجهات التي عناها خادم الحرمين الشريفين في الإشارة لمن يتدخلون في الشؤون الداخلية للبلدان ويؤججون فيها صراع الفتن والطائفة، حيث قال: «ومن جانب آخر فإن المملكة تعمل مع حلفائها لمواجهة نزعة التدخل في شؤون الدول الداخلية وتأجيج الفتن الطائفية وزعزعة الأمن والاستقرار الإقليميين، وتسعى إلى ترسيخ قيم التسامح والتعايش، وتعمل على رفع المعاناة عن الشعوب»..

تظل قيادتنا الرشيدة بكل ثقلها التاريخي، وحضورها الحالي ممثلاً في خادم الحرمين الشريفين «سلمان العزم والحزم»، وولي عهد الأمين «محمد الخير»، صمام أمان للأمتين العربية والإسلامية، بما ينتهجانه من أسلوب الحكمة في مواجهة القضايا العويصة والمعقدة، بعيدًا عن فكرة «استعراض العضلات الحنجرية»، التي ما فتئت «ترشقنا» بخطابات من «الصواعق»، وحين تبحث عنها في محافل الفعل المؤثر فلن تجدها حتى في الصفوف الخلفية، هذا إن لم تجدها في الضفة الأخرى من خطاباتها النارية.. وتلك فئة ابتليت بها الأمة، وهي من أوصل قضايانا الكبيرة إلى هذه الحالات المتأزمة.. وكان حريًا بها أن تتعلّم الدرس من مثل هذا الخطاب البصير لخادم الحرمين الشريفين.