-A +A
عباس طاشكندي
قَدَّموا للبحَّار الكهل قصاصة صفراء، وطلبوا أن ينقش عليها كلمات يصف فيها قصة إبحاره، يروي ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، منذ بداية إبحاره، وحتى رُسُوّ سفينته في آخر موانئها الهادئة.

كان زاد البحَّار في كل مراحل رحلته التي استغرقت أكثر من ستين عاما وعاءً واحدا هو الكتاب، فكان نعم الرفيق في رحلة شاقة بين الأمواج، إذ كان يردد مع القائلين: بأن خير رفيق في الحياة كتاب.


البداية كانت من عند مكتبة الباز في رحاب باب السلام بمكة المكرمة، حين اصطحبه والده، وهو في سن التاسعة بعد أن نجح بتفوق في السنة الثالثة الابتدائية، فقرر والده أن يقدم له هدية نجاحه، مستعينا باستشارة العم الباز الكبير في اختيار ما هو مناسب للطفل الصغير. اختار الباز بلا تردد كتابا عنوانه (المفرد العلم في رسم القلم)، نصوص من السجع والجناس والطباق وغيره.

كانت تلك بداية الرحلة مع الكتاب، حتى وقع أسيراً له في كل مراحل رحلته، ولا ندري من هو الأسير؟ ومن هو الآسر؟ الله تعالى وحده يعلم.

الهدية البسيطة كلفة، الكبيرة معنى، هي المحور الأهم في مسيرة حياته، فهي التي بوأته الأولية في أمور كثيرة، فكان أول الحاصلين على الدرجات الجامعية والعالية في علوم الكتاب، وأول من سمي عميدا للكتاب والمكتبات في الجامعات السعودية.

تلك الأولية أهلته لخدمة بلاده في صور شتى أهمها: اقتراحه بإنشاء المكتبة الوطنية للمملكة العربية السعودية، وصياغة الأنظمة الوطنية المعلوماتية: كنظام حماية المخطوط، ونظام المكتبة الوطنية، وغيرها.

حياته، وإن قاربت أن تدخل بوابة خريفها، وأصبح كل عضو في جسده يحتاج إلى ترجمان، كما قال الشاعر:

إن الثمانين وقد قاربتها قد أحْوَجَت سمعي إلى ترجمان، وصارت الحاجة إلى أكثر من ترجمان، ليس للسمع فحسب، وإنما أخذت الأعضاء الأخرى تنافس السمع في حاجتها إلى ترجمان.

المَعْنِيُّ في هذه الرواية، بعد خدمة في الجامعات السعودية، قرابة الخمسين عاما، وقع أسيرا مرة أخرى للكتاب. فقد تقاعد واستقر في حانوت صغير، يحرر فيه موسوعة عن الحرمين، مثلما فعل العالم الزاهد الورع عبدالله غازي في (إفادة الأنام)، ويسوق فيه الكتاب، وعاد كعمه الباز، عله يعثر على ضالة تحتاج إلى (المفرد العلم في رسم القلم).

وحسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله. إنا إلى الله راغبون.