-A +A
طارق فدعق
الحمد لله أنني درست في العديد من المدارس التي أعتز بها، وهناك واحدة تتربع على عرش أفضل المدارس بدون أي منافسة، وهي مدينة القدس الحبيبة. وقد كنت من المحظوظين لأنني عملت مع إحدى الجامعات في الخارج لإجراء دراسة عمرانية في تلك المدينة الجميلة التي نحلم بزيارتها. وللأسف كنت الوحيد في فريق الدراسة الذي لم أزرها، إلا أنني تعلمت منها الكثير. وكانت المدينة مدرسة غنية تفيض بالمعلومات المذهلة في العديد من الجوانب، وإليكم بعضا منها: تخيلوا أن إحدى الأسماء الموثقة عمرانيا للعاصمة البريطانية هي «القدس الجديدة»، وذلك لأن فنون العمارة في لندن تأثرت كثيرا بحضارة القدس، وبالذات بجمالها العمراني. وتحديدا، فبعد حريق لندن عام 1666 عندما أوكلت المهمة لإعادة بناء المدينة إلى المعماري «كريستوفر رين» لم يخجل من اقتباس العديد من العناصر المعمارية المميزة في بيت المقدس، ومنها الشكل الثماني من قبة الصخرة في ساحة المسجد الأقصى، وتصميم القباب، والنسب الهندسية الجميلة التي نجدها في العديد من مباني القدس التاريخية، بل وحتى النجمة السداسية. ولنتوقف لحظة هنا للإيضاح أن تلك النجمة التي يطلق عليها الصهاينة الاسم العبري «ماجن ديفيد» أو نجمة داود، كانت موجودة قبل الحركة الصهيونية. والحقيقة هي أن الحركة الصهيونية تبنت الشعار في مؤتمر بازل في سويسرا عام 1897. وللعلم فبعض الجهات تتبنى أشكالا هندسية تنسب إليها بقوة بالرغم من كون مصادرها في جهة مختلفة تماما. ومن أفضل الأمثلة هي الصليب المعكوف «سوازتيكا» التي تبنته الحركة النازية في ألمانيا في مطلع الثلاثينات الميلادية كان مصدره الهند. ولنعد إلى عمران القدس فنجد أن جمالها قد هيمن بشكل أو آخر على العديد من العناصر المعمارية في العالم، ومن أهمها تصميم الساحات المفتوحة الجميلة وحماية تلك الساحات، وتحديدا فمساحة القدس التاريخية هي نحو 800 ألف متر مربع.. يعني ما يعادل تقريبا مساحة 10 ملاعب كرة قدم، وبالرغم من ذلك فتجد أن ساحة المسجد الأقصى التي تبلغ نحو 144 ألف متر قد قاومت محاولات السطو عليها من مجموعات مختلفة سواء كانوا الصليبيين أو الصهاينة عبر التاريخ. واليوم جرت العادة أن تلك الساحات المفتوحة تختفي بسرعة لتستغل في استخدامات عامة أو خاصة مع مرور الزمن.. ولكن ليس في القدس. وكل هذا في واد، والتخطيط العمراني في واد آخر. التخطيط طبعا هو «سالفة» أي مدينة.. أي قصتها... والأهم من ذلك أن التخطيط يرسم صورة مستقبلها. والمفروض أن يخدم البشر قبل المباني، والسيارات، والمصالح الأخرى. ولكن في القدس منذ الاحتلال الصهيوني نجد أن التخطيط يخدم السياسة أولا وأخيرا على حساب خدمة البشر. كلما جاء رئيس بلدية صهيوني جديد للقدس، نرى خطة عمرانية جديدة، أو ترجمة جديدة لخطة قديمة تهدف إلى التخلص من الفلسطينيين، علما بأن ذلك من المستحيلات التي لا يريدون أن يفهموها. تعاقب على رئاسة بلدية القدس مجموعة عجيبة بنفس الهدف تقريبا: من تيدي كوليك.. إلى أيهود أولمرت.. إلى عري كاليونسكي.. إلى نير بيركات.. كلهم يريدون أن تكون نسبة اليهود إلى الفلسطينيين 70% إلى 30% بحد أقصى، وكلهم يريدون تطفيش السكان الفلسطينيين لترك القدس وهذا من المستحيلات.

أمنيـــــة


بعض المدن تعتبر مدارس حضارية كبرى يستفيد منها العالم بأكمله بشكل أو آخر. والقدس الغالية هي من أجمل وأفضل المدارس التي تعلمنا الكثير في جمالها، وصمودها، وحفاظها على الكنوز العمرانية التراثية الثرية. أتمنى أن يحفظها الله من كل سوء، وأن يرفع عنها الظلم.

وهو من وراء القصد.