-A +A
نجيب يماني
خالجتني مشاعر شتى، وأنا أتشرف بمرافقة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، في رحلة تدشين قطار الحرمين الشريفين، من جدة إلى مكة المكرمة، حيث كان الحدث استثنائيًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، لما انطوى عليه من حمولات تاريخية وحضارية واقتصادية واجتماعية، بما أثار فيَّ هذه المشاعر المتقاطعة في نقطة التعضيد والإشادة بهذه الخطوة الجبارة، والإنجاز الكبير الذي يحسب لقيادتنا الرشيدة، خاصة وهي تعطي لمشاريع التنمية والتطوير للمدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة أهمية خاصة وبعداً عالمياً لما تمثله في قلوب المسلمين قاطبة.

فعلى المستوى الحضاري، لازمتني طوال الرحلة حالة من النوستالجيا، والحنين المنسرب من ذاكرة التاريخ، وطافت بخاطري صور من قطار المدينة حين كان يشق الفيافي والقفار، ويحط في مدينة رسول الله، صورة لم أشهدها، ولكنني أحس بها كلما زرت المدينة المنورة، ورأيت مبنى المحطة هناك، فلئن كانت تلك الصورة قد زهت قديمًا، فنحن اليوم أمام صورة أكثر زهوًا، وأكثر تطورًا، بتدشين هذا القطار العملاق، وهنا يأتي البعد الاقتصادي، والمتمثل في السرعة الفائقة لهذا القطار، حيث تصل إلى الـ(300) كيلومتر في الساعة، موفراً الزمن، ومقرباً المسافة، إضافة إلى الطاقة الاستيعابية العددية في رحلة واحدة بما يفوق رتلاً من السيارة لذات المهمة، الأمر الذي يعني توفيرًا للوقود، وصيانة للطرق من استهلاكها بالحركة المستمرة، وحافظًا على البيئة من مخلفات عوادم السيارات، وغيرها من المنافع الاقتصادية لهذا المشروع الاقتصادي العظيم. إن قطار الحرمين السريع يربط مكة المكرمة والمدينة والمنورة بمحافظة جدة ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية برابغ بخط حديدي مكهرب بطول (450) كيلو مترا مزدوجا، ويعتمد المشروع في تشغيله على (35) قطارا كهربائيا وأنظمة إشارات واتصالات حديثة، وقد تم بناء (4) محطات للركاب على مستوى عالٍ من التميز والأداء وهي محطة مكة المكرمة ومحطة جدة ومحطة مدينة الملك عبدالله الاقتصادية ومحطة المدينة المنورة، وقد تم تصميم محطات مكة والمدينة والمطار كمحطات تقع على أطراف المسار ومحطتي جدة والملك عبد الله كمحطتي عبور، وتحتوي كل محطة على مبنى رئيسي وصالة قدوم ومغادرة ومسجد لألف مصلٍ ومراكز خدمة ومحلات تجارية ومقاهٍ وخلافه، كما تم ربط كل محطة بممرات مع محطات القطار الخفيفة، علما بأن هناك 7 قطارات في الساعة تتحرك بين مكة وجدة، وقطارين في الساعة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة هذا بخلاف المواسم والأعياد، ومن المتوقع أن يتم نقل حوالى 12 ألف راكب في الساعة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة في كل اتجاه، وذلك خلال أوقات الذروة وتصل الطاقة الاستيعابية للقطار إلى 60 مليون راكب سنويا لخدمة المواطنين وحجاج بيت الله الحرام والمعتمرين والزائرين. جهود جبارة بذلت لانطلاق القطار على كامل المسار الذي بلغ 500 كلم، وقد أنشئ عليه 138 جسرا وتقاطعا، كما تم إنشاء 150 عبارة، وإنشاء (6) محطات مركزية وورشتي صيانة وأربعة مراكز خدمات ومركزي تشغيل، ومعابر للجمال وأعمال الحماية وأسوار الطريق في عمل فني متقن كان وراءه جهد ومال وعمل دؤوب حتى تحقق حلم القطار، وبهذه الصورة الحضارية المتقدمة، في نهاية الرحلة في محطة الرصيفة رأيت الأمير خالد الفيصل ممتلئا بالفرحة سعيدا باللحظة طافحا بالبشر بعد أن تحققت أغلب أحلامه وطموحاته وهو يأخذنا للعالم الأول وإن كان الطريق إليه صعباً ولكن ليس مستحيلا، ويمكن الوصول إليه وإن هناك مستقبلا يبنى من قبل العالم المتقدم ولا بد أن نتشارك في هذا البناء وقد تحقق الكثير بدعم ولاة الأمر وتوجيهاتهم الكريمة.


كم أتمنى صادقًا أن تتحقق أمنية الفيصل ويكون القطار هو وسيلتنا الأولى للانتقال بين فيافي المملكة وربوعها، لما له من أبعاد كثيرة، وأضيف إليها بعدًا مهمًا يتمثل في ارتفاع نسبة الحوادث المرورية في المملكة بشكل مخيف ومرعب، وما ينجم عنها من خسائر ندفع ثمنها فادحا لكل هذا وغيره كانت أهمية قطار الحرمين الشريفين الذي يقف شاهدًا على عظمة التفكير الإيجابي، والقراءة السليمة للمتغيرات الاقتصادية والحضارية والاجتماعية بما يتناسب ورؤية 2030.

وما يشهده قطاع النقل من طفرة في خدماته اللوجستية وتعزيز التنمية المستدامة ورفع وتيرة الإنتاج ونمو الاقتصاد وتنويعه مع توطين ٤ آلاف وظيفة، القطار أحد مخرجاتها

ولعل السؤال الذي ردده الأمير خالد الفيصل في افتتاح تطوير الكورنيش الشمالي بجدة يردده كل مخلص عند كل منجز حضاري (هل ستحافظون على الواجهة البحرية أم سأسمع غدا بعد تخريبها من المسؤول؟)، نعم يا سمو الأمير هناك من ضعفت نفسه وقل عقله يخرب عامداً منجزات الوطن وكلنا شركاء في حمايتها، ولا بد من تفعيل دائرة مراقبة إلكترونية تقف بالمرصاد تصور وتسجل وتوثق أفعال المخربين والمستهترين ممن أمنوا العقوبة فأساءوا الأدب، يقابلها عقاب صارم رادع موجع لكل مستهتر لا يقدر إنجازات الوطن.