-A +A
عبدالعزيز الوذناني
ضحايا القروض العقارية أو ما يعرف بمتضرري «السايبر» هم شريحة مهمة من الطبقة الوسطى في المجتمع السعودي، وكل ذنبهم أنهم أرادوا امتلاك منزل العمر، ومن منا لا يحلم بامتلاك منزل يكون بمثابة ضمان له ولأبنائه بعد الله عز وجل من نوائب الدهر؟، ولكنهم وجدوا أنفسهم في دوامة لها بداية ولا يعرف لها نهاية أو طرق للنجاة منها. قضيتهم أصبحت قضية رأي عام بعدما تناول الإعلام الوطني المتزن هذه القضية وسلط الضوء على معاناتهم مع البنوك المحلية. فهم قادرون على مساعدة أنفسهم و«حمل همهم» عن الدولة، وكل ما يحتاجون إليه هو القوانين الفاعلة التي تحميهم من استغلال البنوك وتضمن لهم معاملة عادلة.

أولاً ما هو السايبر: «هو معدل تكلفة الإقراض بين البنوك لليلة واحدة». وللتوضيح للقارئ الكريم، لنفرض أن البنك «س» عنده نقص في السيولة ويحتاج إلى 10 ملايين ريال. في هذه الحالة يمكن للبنك الاقتراض من أحد البنوك المحلية، وليكن البنك «ص»، بفائدة 1%، فهذا هو السايبر، ويتم تحديده بشكل يومي من قبل البنوك المحلية، حيث تقوم «ساما» بالاتصال عليهم أو يتم الاتصال من قبل طرف ثالث مكلف من قبل «ساما»، ومن ثم أخذ المتوسط وهذا هو السايبر. إذن السايبر هو جزء من العملية البنكية، ولكن مشكلة إخواننا المتضررين مما يعرف بقضية السايبر هي أكبر وأعمق وأشمل من السايبر الذي ما هو إلا جزء يسير من معاناتهم ومن الظلم الذي وقع عليهم. من وجهة نظري معاناتهم ترجع لعاملين أساسيين هما:

الأول: الصناعة البنكية في المملكة، خصوصا ما يعرف ببنوك التجزئة أو البنوك التي تقدم خدماتها للأفراد التي تعاني مما يسمى «احتكار القلة»، وهذا الخلل تتحمله مؤسسة النقد، حيث شدة حرصها على حماية البنوك المحلية تسببت في تعطيل تطور الصناعة البنكية في الاقتصاد الوطني، فاقتصاد بحجم الاقتصاد السعودي الذي يمثل واحدا من أكبر 20 اقتصاداً في العالم لا يوجد فيه سوى 11 بنكاً. هذا هو أحد الأسباب الرئيسية في المعاناة والضرر الذي وقع على أصحاب القروض العقارية. فاحتكار القلة غيب دور المنافسة الفاعلة وأجبر المستفيدين من خدمات البنوك على محدودية الخدمة وارتفاع تكاليفها. فعلى الرغم من أن نحو 64% من ودائع بنوكنا المحلية تأتيهم من دون تكاليف إلا أن فوائد قروض الأفراد العقارية في السوق المحلية تصل إلى نحو ضعفي مثيلاتها في السوق الأمريكية.

ثانياً: عدم توفر حتى الحد الأدنى من الحماية للمُقترضين، وهذا هو السبب الرئيسي الثاني لمعاناة ضحايا القروض العقارية. مثل بقية الإدارات التنفيذية في القطاع العام، مؤسسة النقد تتولى التشريع والتنفيذ والرقابة في ما يخص الصناعة البنكية. بلغة الحوكمة هذا فيه تضارب مصالح ويتعارض مع مبادئ الحوكمة الفاعلة التي تتطلب استقلال هذه الوظائف، فضلاً عن أن التشريعات، خصوصا المتعلقة بحماية المستفيدين من خدمات المؤسسات المالية، أصبحت أكثر تعقيداً وتتطلب كفاءات وطنية ذات معرفة وخبرات تراكمية في سن مثل هذه التشريعات ودراسة آثارها الاقتصادية والاجتماعية، وعلاقتها بالسياسات العامة للدولة، وليس بالضرورة أن تتوفر لدى مؤسسة النقد مثل هذه الكفاءات البشرية. كذلك هذا يتعارض مع مبدأ المسؤولية والمساءلة (responsibility and accountability) فكيف تكون جهة واحدة هي المُشرع والمنفذ والمراقب؟ هذا خلل كبير في نظام حوكمة القطاع العام ويجب تداركه.

هل لفوائد البنوك العالية ما يبررها اقتصادياً؟

في السنوات الأخيرة ابتكرت البنوك المحلية صيغا متعددة لعقود التمويل العقاري التي تستهدف الطبقة الوسطى، مثل عقود الإجارة، وعقود المرابحة، ومشتقاتهما، هذه العقود في مجملها هي عقود إذعان، وأحادية الجانب، فهي مكتوبة لحماية البنوك، وبطريقة تجعل البنوك تُفسر الغامض منها لمصلحتها، ولا تتضمن حتى الحد الأدنى من الحماية للمُقترضين، وهم الجانب الأضعف في العلاقة التعاقدية مع البنوك والأحق بالحماية.

عقود «الإجارة» هي الأكثر انتشاراً وتفضيلاً لدى البنوك المحلية، وغالباً تسوق هذه العقود بما يسمى هامش الربح، وهو معدل فيه الكثير من التضليل، حيث يوحي بأن الفائدة منخفضة بعكس الفائدة الحقيقية التي يتحملها المُقترض وهي تساوي نحو ضعفي ما يسمى بـ«هامش الربح» الذي تستخدمه البنوك.

للتوضيح.. المثال التالي مبني على قرض أحد متضرري القروض العقارية. في هذا المثال اشترى أحد المواطنين عقارا بمبلغ مليوني ريال، وكانت الدفعة المقدمة من قيمة العقار تبلغ 500 ألف ريال، والباقي من قيمة العقار، أي 1.5 مليون ريال، يتم تسديده على 25 عاما بأقساط شهرية، وبناء على هذه المعطيات فإن حسبة قرضه تكون على النحو التالي:

قيمة العقار مليوني ريال، والدفعة الأولى من قيمة العقار 500 ألف ريال، ومبلغ التمويل – المبلغ المُقترض من البنك 1.5 مليون ريال، والقسط الشهري 9770 ريال، فيما ستصل مدة التمويل بالسنوات 25 عاماً (300 شهراً)، وصافي الأرباح (الفوائد) 1431000 ريال، و2931000 ريال إجمالي المديونية، ويصل ما يسمى بهامش الربح لدى البنوك 3.8%.

أين الخطأ في هذا المثال؟

الخطأ يكمن في طريقة احتساب الفائدة (الأرباح). المثال ذكر بأن هامش الربح 3.8% وهو محسوب كالتالي ((1.500.000 ريال x 0.038)/‏‏‏‏1.500.000 ريال) x 100 = 3.8% وهذا يوحي للمقترض بأن معدل الفائدة السنوية للقرض هو 3.8% وهذا غير صحيح، حيث تم احتساب الفوائد على أصل القرض بالطريقة التالية:

1.500.000 ريال x 0.038 معدل الفائده السنوي = 57.000 ريال في السنة x 25 عاماً = 1.425.000 ريال مضافاً إليها رسوم إدارية في حدود 6000 ريال وبالتالي أصبح ما يسمى إجمالي الإرباح 1.431.000 ريال. من هذا المثال البسيط يتضح للقارئ الكريم بأن معدل الفائدة الحقيقي ليس 3.8% وإنما 6.11%. هذا هو معدل الفائدة الفعلي (الحقيقي) أو ما يسمى (the Annual Percentage Rate – APR). مع العلم بأن هذا المعدل يساوي نحو ضعفي معدل الفائدة المتغير الأمريكي الشامل لجميع التكاليف أي APR، فلو كان معدل الفائده 3.8% مثلما ذُكر في المثال فإن حسبة القرض ستكون كالتالي:

القسط الشهري يصبح 7753 ريالاً بدلاً من 9770 ريالاً، وإجمالي صافي الفوائد (الأرباح) سيكون 825.900 ريال بدلاً من 1.431.000 ريال، وإجمالي المديونية (أصل القرض + الفوائد) سيكون 2.325.900 ريال (7.753 ريال x 300 شهر) وليس 2.931.000 ريال. الفرق: 2017 ريال شهرياً، أي 605.100 ريال زيادة في تكاليف القرض، وتحمل للمُقترض، وهذا يمثل ضعف هامش الربح المشار إليه الذي يُستخدم من قبل البنوك للترويج لمنتجاتهم.

هذه ليست المشكلة الوحيدة في القروض العقارية الخاصة ببنوكنا المحلية، فعلى الرغم من أن 64% من ودائع بنوكنا هي عبارة عن ودائع جارية، أي أنها أموال تتوفر للبنوك وتستخدمها بدون مقابل، إلا أن فوائد بنوكنا المحلية الخاصة بقروض الأفراد العقارية تساوي تقريباً ضعفي فوائد مثيلاتها الأمريكية، وهذه تعتبر نسبة مرتفعة جداً بكل المقاييس وليس لها ما يبررها من الناحية الاقتصادية. عادة فوائد القروض تتناسب طردياً مع مخاطرة القروض، فكلما كانت المخاطرة في عدم السداد عالية كلما ارتفعت الفوائد، ولكن هل الفوائد العالية لقروض الأفراد العقارية تتناسب مع درجة المخاطر التي تتحملها البنوك من هذه القروض؟ هذا النوع من القروض العقارية في سوقنا المحلية يعتبر قروضاً آمنة، وهامش المخاطرة فيها يكاد يكون معدوما، وذلك للأسباب الأربعة التالية:

أولاً: أصحاب هذه القروض من الطبقة الوسطى وربما من كبار موظفي القطاع الخاص أو العام، وفي الغالب هم في الأربعينات من العمر أو قريبون من هذا السن، ومن ذوي الملاءة المالية الجيدة، وخدماتهم الوظيفية قد تصل إلى 25 عاماً.

ثانياً: القروض العقارية مضمونة بالعقار نفسه، حيث يُكتب العقار باسم البنك، بينما المشتري عبارة عن مُستأجر، ويظل العقار باسم البنك إلى أن يتم تسديد آخر قسط من قيمة الشراء مُضافا إليها الفوائد.

ثالثا: القرض مضمون براتب المُقترض، حيث يشترط البنك الممول التزام جهة عمل المُقترض بتحويل راتب صاحب القرض إلى البنك شهرياً، وعادة لا ينظر البنك في أي طلب قرض عقاري ما لم يقدم خطاب تحويل الراتب للبنك.

رابعاً: القرض العقاري مضمون بخدمات وحقوق الموظف، سواء أكانت الخدمات السابقة للقرض العقاري أو اللاحقة له، حيث يُطلب في خطاب تحويل الراتب من جهة العمل للبنك أن يتنازل الموظف عن حقوقه وتعويضاته التقاعدية، وتلتزم جهة العمل بتحويل هذه الحقوق وأي تعويضات مالية أو رواتب للموظف إلى البنك في حال ترك الموظف للعمل، وأن لا يعطى للموظف إخلاء طرف أو نقل راتبه إلى بنك آخر قبل أن يأتي الموظف بخطاب إخلاء طرف من البنك.

ما هي الحلول؟

يُقال الاعتراف بالمشكلة نصف الحل، ومن هذا المنطلق فإنه يجب أن نعترف بأن لدينا خللا، وهذا الخلل على مستويين: خلل على مستوى سوق الخدمات المالية، وخلل على مستوى كفاءة وفاعلية التشريعات. والحل من وجهة نظري يمكن تقسيمه إلى جزأين.

الجزء الأول: وهو الجزء المتعلق بمتضرري القروض العقارية، فقضيتهم عادلة وتتطلب التدخل والإنصاف. فتحويلهم للبنوك ليس حلاً وإنما هروب من المشكلة وإطالة أمد معاناتهم. الحل يجب أن يكون مبنيا على قاعدة لا ضرر ولا ضرار، أي الحل المتوازن الذي ينصف المتضررين ولا يؤثر على البنوك. الحل من وجهة نظري يجب أن يكون أحد الخيارات الثلاثة التالية:

الخيار الأول: الرجوع للفوائد التي وقع عليها المتضررون مع البنوك في العقود الأصلية التي أنشأت القروض الحالية. على الرغم من أن هذه الفوائد مرتفعة، إذ تمثل ضعفي مثيلاتها في البنوك الأمريكية، ولا تتناسب مع الحماية والضمانات المعطاة للبنوك، ولكن الرجوع إليها ربما فيه شيء من مسك العصا من المنتصف.

الخيار الثاني: يمكن لمؤسسة النقد أن تقوم بتحديد الفوائد التي يمكن للبنوك أخذها على هذه القروض فوق معدل السايبر بنسبة تراوح بين 1% و2.5% (كحد أعلى) مع الأخذ في الحسبان عدة عوامل، مثل الملاءة المالية للمقترض، وحجم المبلغ المسدد من قيمة القرض، والتغير في القيمة السوقية للعقار، وتلزم البنوك بقوة القانون بإيضاح هذه المعايير ووزنها النسبي في قرار تعديل هامش الفوائد لأصحاب القروض في كل مرة يتم تغيير معدل فائدة قروضهم.

الخيار الثالث: تعديل عقود المتضررين مع البنوك إلى عقود مرابحة، واستخدام معدل المرابحة الثابت الذي كان سائدا في تاريخ توقع العقود الأصلية مع البنوك.

الجزء الثاني: أو الجزء المتعلق بإصلاح سوق الخدمات المالية وإصلاح البيئة التشريعية. غياب المنافسة الفاعلة في السوق البنكية وخاصة البنوك التي تقدم خدمات للأفراد مقروناً بعدم كفاءة التشريعات والقوانين التي تحكم العقود التي تجريها هذه المؤسسات وفي ظل عدم وجود حتى الحد الأدنى من الحماية للمستفيدين من الخدمات المالية التي تقدمها المصارف جعلت ضحايا القروض العقارية فريسة سهلة ولقمة سائغة للبنوك. هذا الخلل يجب تداركه وإصلاحه لتفادي سيل من الضحايا وتشريد أسر، وللحفاظ على الطبقة الوسطى التي هي العمود الفقري والمحرك الحقيقي للاقتصاد الوطني. الحل من وجهة نظري يجب أن يسير في مسارين. المسار الأول: فتح سوق الخدمات المالية للمنافسة العادلة والمدروسة حتى لا تترك السوق المحلية تحت رحمة احتكار قلة من المصارف. هذا كفيل بتوفيرعدة خيارات للخدمات والمنتجات المالية أمام المستفيدين في السوق المحلية، ورفع كفاءة الخدمات المقدمة، وتحسين جودتها، وتخفيض تكاليفها.

المسار الثاني: يجب أن يركز على إصلاح البيئة التشريعية وخاصة المتعلقة بحماية المستفيدين من الخدمات المالية التي تقدمها المؤسسات المالية. ضحايا القروض العقارية هم الحلقة الأضعف في العلاقة التعاقدية مع البنوك. القوي لديه من الموارد والإمكانات ما يمكنه من حماية نفسه، أما الضعيف فليس له بعد الله إلا الدولة التي يجب عليها حمايته من استغلال وبطش القوي.

تولي الإدارات التنفيذية وظيفة التشريع والتنفيذ والرقابة ربما خدمنا فترة من الوقت حيث كنا مجتمعا بسيطا في قوانينه وتشريعاته واقتصاده ولكنه عطل تطور بيئتنا التشريعية والقانونية، فضلاً عن أنه يتنافى مع أبسط أسس ومبادئ الحوكمة الفاعلة التي تتطلب استقلال هذه الوظائف. اليوم أصبح سن التشريعات عملية مُعقدة وتتطلب كفاءات ذات معرفة وخبرة تراكمية قادرة على دراسة الآثار الاقتصادية والاجتماعية المباشرة وغير المباشرة للأنظمة المقترحة وهذه الكفاءات ربما لا تتوفر للإدارات التنفيذية.

ربما يكون مجلس الشورى هو الأنسب لتولي العملية التشريعية بعد توسيع صلاحياته وإصلاح آلياته. فمجلس الشورى ولله الحمد فيه كفاءات وطنية ذات خبرة ومعرفة تراكمية في القانون والاقتصاد والمعارف الإنسانية الأخرى. فمجلس الشورى أكثر قدرة على إدارة العملية التشريعية والاسترشاد بأفضل الممارسات الدولية والمحلية والاستفادة من الخبرات والمعارف التراكمية لقطاع واسع من المختصين وقطاع الأعمال والإدارات والهيئات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، فضلاً عن قدرته على مناقشة مشاريع القوانين في جلسات مفتوحة لوسائل الإعلام وتتسم بالشفافية والمصارحة. هذا بلا شك سيثري التشريعات الوطنية ويعزز التوافق الوطني عليها، ويدفعها لمواكبة التقدم والتطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تنعم به المملكة ولله الحمد.

* أستاذ المحاسبة المشارك

رئيس قسم المحاسبة بكلية إدارة الأعمال في جامعة الفيصل

wathnani@alfaisal.edu