-A +A
نجيب يماني
لن تجد عاملاً سلبياً أكثر تأثيرا على اقتصاد أيّ دولة ونموها من الفساد، فمهما كان حجم الإنتاج، وتنوّع مصادره، فإنّه لا محالة إلى تبديد طالما ظلّ الفساد ينخر كالسوس في مفاصل الدولة، ويعطّل من نموّها الاقتصادي، ويهدم أركانها ركنا ركنا.. وأكثر ما يكون تأثير الفساد فتكا بالاقتصاد حين يصبح سمة من سمات المجتمع، وحالة «اعتيادية»، يتساكن معها المجتمع ويتعايش، فتصبح «الرشوة» ضرورة لتسهيل الخدمات، والنهب من المال العام «فهلوة» و«شطارة»، وخيانة الأمانة سلوكا مألوفا عند كل من تسنّم منصبا قياديا.. وغير ذلك من مظاهر الفساد وأساليبه التي «اعتدنا» عليها ردحا من الزمن، وفي غير ما موضع ومنصب ومؤسسة، مرة مجار بدون تصريف وأخرى أراض في مجرى السيول وثالثة مشاريع وهمية بالمليارات، سدود ترابية وأنفاق مضروبة وشبوك منصوبة وأراض منهوبة وصور فساد ناء بحملها الوطن حتى جاء القرار الملكي بتشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد، برئاسة الأمير محمد بن سلمان، لتبرز ثمار هذا القرار سريعا، وتشيع حالة من الطمأنينة داخل الوطن وخارجه، يقول قطب العقارات الشهير سام زيل لمحطة بلومبيرغ أنا اليوم مستعد أكثر من أي وقت مضى للاستثمار في السعودية، كلمة لها مدلول عميق في ميزان الدول وثقة الآخرين بها، بعد سنوات من سلب ونهب المال العام. ولولا عناية السماء ومشاركة الأمطار والسيول لفضح بعض ما يفعله هؤلاء المسؤولون. وعزيمة ولي الأمر والتي أعلنها بشكل مدوٍ وصريح أنه لن ينجو مفسد كائنا من كان، من المحاسبة وفق العدل والقسطاس المستقيم وكفاء ما ارتكب من إثم بحق وطنه ومواطنيه.

إن المحصلة المرجوّة من هذا القرار التاريخي تتخذ بعدا آنيا يتمثل في ترتيب البيت السعودي بشكل يستوعب المتغيرات الكبيرة التي ظل يشهدها منذ تولي الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، وما تبع ذلك من تطورات عديدة في كافة المساقات، ولعل أبرزها رؤية المملكة 2030، بكل ما تستبطنه وتحمله في طياتها من استشراف للمستقبل، وهو استشراف لايمكن تحقيقه، إلا إذا تمت تنقية المؤسسات والقطاعات الحكومية، وغيرها من داء الفساد، واستغلال النفوذ، واستباحة المال العام بالصورة التي أقعدت العديد من المشاريع في السابق، وعطلت تروس التنمية من أن تعمل بالكفاءة المرجوة برغم توفير كل المعينات لذلك. أمام اللجنة العليا عمل دؤوب وضخم ينتظرها، حتى تعبّد الطريق أمام تنزيل رؤية 2030 إلى أرض الواقع بالمدى الزمني المضروب لها، وحسب التصور الأمثل الذي خُطط لها، بواقع يأمل الجميع أن يروا ثماره في حياتهم تنمية ورفاهية وتطورا.


إن المملكة تمر بمرحلة غاية في الحساسية والدقة، وتمر سفينتها مطمئنة في عالم مضطرب بأمواج الفتن والمشكلات العميقة، ولايمكن لهذه السفينة الآمنة أن تمضي في هذا العباب المتلاطم من حولها، إذا كان في جوفها من يعمل لمصلحته الخاصة، خائنا الثقة التي أوليت إياه، مستحوذا على حق غيره بأساليب ملتوية، وتصرفات فاسدة، فلا محيد ساعتئذٍ من عقاب رادع، وحزم باتر يوقف هذا العبث عند حده، ويعطي النموذج والمثال لهيبة الدولة ومؤسساتها في مواجهة كل من تسوّل له نفسه العبث بمقدار الوطن والمواطن.

كلنا أمل وتفاؤل في أن تحقق هذه اللجنة الغاية المنشودة من إنشائها، متوخية الدقة والحذر والعدل في عملها، فالغاية الأسمى هي تحقيق العدالة، وكف يد الظالمين، وتحجيم دائرة الفساد، وتحطيم الشبوك واسترجاع الأرصدة المنهوبة. لقد عُرف عن هذه البلاد أنها تحكم شرع الله القويم، فليطمئن كل شخص أننا مقبلون على عهد جديد، يتساوى فيه الناس أمام القانون، ولا مزية لوزير على خفير، ولا لغني على محدود دخل أمام العدل حين ينصب، فالناس أمام القانون سواء، وليعلم كل من كلل بالثقة وأوكل إليه أمر من أمور الناس العامة أنه في مقام التكليف المستوجب للعطاء، وليس في مقام التشريف والتباهي، واستغلال النفوذ، هذا هو وطني في عهد سلمان الحزم، ومحمد الخير.. فمن أراد أن يجد له موطئ قدم راسخا فيها فليمضِ على هدى قويم، ويسلك الطريق الأقوم، ويقدم جهده المنظور في أي موضع هو فيه، وليضع مصلحة الوطن نصب عينه أولاً.

سيعود المال المنهوب إلى خزينة الدولة، وحين تكشف نتائج التحقيق ملابسات العديد من القضايا التي طمرتها يد الفساد والمحسوبية، برغم نتائجها الكارثية التي مازالت باقية حتى اليوم، وحين يطمئن المواطن أن هذه البلاد المباركة يقودها رجل حزم يقيم العدل القويم على أقرب الناس إليه، ويعينه على ذلك ولي عهد لا يقل عنه حزما وعزما.. وليستعد المفسدون إلى ليالٍ طويلة بالسهاد، فمهما اختبأوا وتواروا ستطالهم عين الرقابة الصارمة.. لابد من تعزيز النزاهة ومنع هدر المال لتستمر التنمية المستدامة للاقتصاد الوطني لخير الوطن والمواطن..