-A +A
خالد عباس طاشكندي
قضايا «الفساد» لا تسقط بالتقادم، فالحرام لن يكون حلالاً بعد مرور فترة من الزمن، وكما أكد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان «لن ينجو أي شخص تورط في قضية فساد مهما كان منصبه»، هكذا هي خلاصة سياسة الدولة تجاه مكافحة الفساد بكافة أشكاله، وقد قطعت شوطاً كبيراً ليس فقط في مكافحة الفساد، بل اقتلاعه من جذوره تزامناً مع الأمر الملكي الأخير بتشكيل لجنة عليا لحصر قضايا الفساد العام، وما تبعه من إيقاف ومساءلة لعدد من المسؤولين الكبار، وبالرغم أن غالبية القضايا المنظورة حالياً مرتبطة بالفساد المالي باعتبار أن أثره بليغ على الاقتصاد الوطني، إلا أن الفساد الأكاديمي في الجامعات الوطنية لا يقل عنه خطورة، بل ويعد من أخطر أنواع الفساد، فهو يضيع جهود ومصروفات الدولة على أكبر قطاعاتها، ويضعف من مخرجاتها واستثماراتها الإستراتيجية في تنمية الموارد البشرية والكفاءات الوطنية، وهو لا يعني فقط فسادا في القيم والأخلاق، بل يعد الفساد العلمي في الجامعات مصنعاً لتفريخ الفساد وإعادة إنتاجه في كافة المجالات.

وخلال سنوات عملي في مجال الصحافة، كنت شاهدا على سلسلة من قضايا الفساد العلمي التي تسببت في هدر عشرات الملايين من الريالات، ولم تحدث أي إدانات تذكر سوى في عدد قليل من القضايا وذلك لأسباب عدة، أبرزها عدم وجود لجان أكاديمية متخصصة ومحايدة من خارج نطاق مسؤولية الجامعات أو من خلال الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، لكشف الملابسات العلمية المرتبطة بالفساد وتتفهم أبعادها وتعقيداتها العلمية التي تتطلب مراجعات وتدقيق من قبل أكاديميين متخصصين للبت فيها.


وكان من أبرز هذه القضايا خلال السنوات القليلة الماضية، «قضية مجلة ساينس»، وهي مجلة علمية محكمة وشهيرة جداً على مستوى العالم، وقد ادعت في 2011 أن جامعتين من كبرى جامعاتنا الوطنية قامتا بشراء جهود الباحثين العالميين مقابل المال وبهدف الارتقاء في سلالم ترتيب الجامعات على مستوى العالم، وذلك من خلال عقود صورية مرتبطة بأحد برامج التبادل العلمي مع باحثين من الخارج، وكان الهدف الرئيسي من العقد حسب ما ذكرته «ساينس» هو إضافة اسم الجامعة السعودية التي تم التعاقد معها كانتماء ثانٍ ((Second Affiliation )) ضمن الأبحاث التي نشرها هؤلاء الباحثون العالميون وتم إدراجها ضمن فهرس البحوث العلمية ISI، وكانت تكلفة التعاقد مع الباحث الواحد تتجاوز 72 ألف دولار للعقد و80 ألف دولار لتغطية إجراء أي بحوث إضافية أخرى غير البحوث التي تم تسجيلها بأثر رجعي، وذلك بحسب صورة العقود التي تم تداولها في وسائل الإعلام، وكانت أعداد هؤلاء الباحثين بالعشرات، وبتكلفة تتجاوز عشرات الملايين سنوياً مقابل إنجازات زائفة، وذلك عن الفترة ما بين 2009 و 2011، ولم تصدر حينها أي إدانات رسمية بالرغم من الانتقادات الواسعة التي طالت تلك الجامعات في وسائل الإعلام ومن قبل أكاديميين يعملون فيها أيضاً.

وفي الفترة ما بين 2011 و 2014 تعاقدت كليات الآداب في ثلاث جامعات من كبرى جامعاتنا الوطنية مع مؤسسة أمريكية للاعتماد الأكاديمي تدعى «الأكاديمية الأمريكية للتعليم الحر» (AALE)، واحتفت كليات الآداب في هذه الجامعات بحصولها على هذا الاعتماد «العالمي» الذي كلفها بالتأكيد مبالغ طائلة بالرغم من أنه لا وجود له؛ إذ اتضح أنه لم يسبق أن اعترف به مجلس التعليم العالي الأمريكي (CHEA)، أما بالنسبة لوزارة التعليم الأمريكية فقد سحبت الثقة منه منذ 2006 وأوقفت هذه الهيئة عن تقديم الاعتمادات الأكاديمية بقرار من وزيرة التعليم الأمريكي آنذاك «مارغريت سبيلينغز»، ولم يسبق أن حصل على هذا الاعتماد سوى جامعة أمريكية واحدة وغير معترف بها.

ومن القضايا الأخرى التي توقفت أمامها، هي قضية شبهة تورط أحد الأقسام الأكاديمية بإحدى كبرى الجامعات في القيام بفبركة نتائج اختبار تحريري للمفاضلة على وظيفة «معيد» بعد ترشيح القسم لأربعة جامعيين في التصفية النهائية من بين أكثر من 1700 متقدم، وتسببت نتيجة الاختبار التحريري -الذي لم يختبره أحد- بحسب تأكيدات المرشحين للمفاضلة وتأكيدات عدد من أعضاء هيئة التدريس وأيضاً لجنة التعيينات، وهو ما تسبب في حصول أحد المرشحين على الوظيفة دون وجه حق، وحرمان صاحب المركز الأول من حقه النظامي في الحصول عليها، وقامت الجامعة حينها بفتح تحقيق داخلي وإغلاقه دون نتائج، وكأن شيئاً لم يكن.

هذه بالتأكيد، نماذج بسيطة مما يجري داخل الجامعات بكل أسف، إذ توجد أوجه أخرى للفساد مرتبطة بتمويل البحث العلمي والكراسي العلمية، وعقود توريد المستلزمات، والنثريات، والتعيينات ولجان الترقيات واعتماد الدرجات العلمية، واستغلال النفوذ الوظيفي.. إلخ، وجميعها باتت تستوجب على «نزاهة» إيجاد لجان أكاديمية متخصصة لمكافحة «فساد الجامعات»، وإن وجدت مسبقاً فهي لم تقم بدورها الكافي بعد، ولا يسعنا أن نقول سوى «إذا فسد العلم فسد العالم».

ktashkandi@okaz.com.sa

khalid_tashkndi@