-A +A
فؤاد مصطفى عزب
جاءني صوته عبر الهاتف.. أين أنت ياأبافراس.. العالم كله لا يغني عنك.. متى ستزورني في شقتي الجديدة! سقط صوته على روحي بغزارة مطر انقطع لا زمان عن أرض تشققت من طول انتظارها فبيني وبين هذا الصديق.. أخبار.. وحكايات.. ونوادر.. وذكريات.. وأسفار.. وشيء آخر يسري بيننا دائماً يعلن عن نفسه كلما التقيت به، إنه الود القديم لا أعلم كيف أتحدث عن صديقي هذا.. لا أعلم كيف أستكمل عبق السرد عنه دون الوقوع في فخ الملل وهو الأمر الذي يجب على الكاتب ألا يقع فيه.. عرفت منه عنوان مسكنه الجديد.. صديقي هذا من مدمني التنقل.. كل بضع سنوات هو في شقة جديدة.. دائما كلما أعاتبه ممازحاً أرهقتني بتنقلك ورحيلك فيجيبني أنا روح حرة يادكتور، أنا لا أحب عبودية الأماكن.. نداءً خفياً يدعوني لأذهب إلى أماكن مختلفة وأحياء مختلفة.. وبشر لم أعتد رؤية وجوههم كل يوم، أنا أصادق التغير ولا أجعل للأماكن والذكريات سطوة علي.. وأنا عكس هذا الصديق تماماً فكل أحلامي وأيامي تمتزج دائماً بالحنين للبشر والأشياء التي عشتها بجسدي كله، بالإضافة إلى تلك التي عشتها بعيني وعقلي.. في أعماق قلبي أدرك أن الحياة الحقيقية لا تعاش فقط بالحاضر وإنما بالماضي وفي ما بعد عندما نتذكرها.. أنا جنين الحنين والود المعتق والذكرى.. شجرة أنا تحب البقاء في نفس التربة ونفس المكان تحت بقعة السماء الزرقاء أمد جذوري في عمق المكان وفي الأماكن والبشر.. أود الود.. أصل إلى البناية أنظر تحديداً إلى الطابق الثاني الطابق الذي يعلو المحل الكبير لبيع اللوازم الرياضية من ملابس وأحذية ومعدات كما وصفه لي.. أقطع الطريق إلى الجانب الآخر، حيث يقطن صديقي الآن وحيداً في شقة صغيرة في الطابق الثاني لبناية صفراء قديمة.. آخذ الشارع النازل من طريق المدينة الشارع المليء بمحلات مختلفة أمشي ببطء.. آخر مرة رأيت فيها صديقي كانت قبل عام، آخر مرة تحدثنا في الهاتف المحمول هذا الأسبوع.. صعدت درجات البناية القديمة.. أطرق الباب يفتح مرحباً يحتضن بعضنا بعضا يقبلني في خدي أقبل جبينه وعينيه.. أجلس.. ننظر إلى بعضنا ينظر إليّ نظرة تملؤها كل المشاعر الحميمة التي أشعر بها كلما ألقاه.. ينتظر أن أبادر بالكلام.. أساله عن أحواله يجيبني الآن أحيا حياة أوتوماتيكية بعد التقاعد تماماً كغسالة (فل أوتوماتيكية) تضبط مؤشر البرنامج حسب نوع الغسيل فتنجز الآلة عملها دون تبرم دون تفكير دون إحساس.. أعد الدقائق ياأبافراس إلى أن تصبح ستين دقيقة فأشطب ساعة من الوقت.. أعد الساعات إلى أن تكتمل أربع وعشرين ساعة فأشطب يوماً.. الناس تشتكي من قصر اليوم.. وأنا أشتكي من طوله وبطء انتهائه وقلة حيلتي قالها والدموع تسيل من عينيه في هدوء كنت أتامله كمصور فقد كمراته فاضطر إلى حفظ دقائق الصور من مخيلته كي لا تفلت منه، أو كأن الصور ستغيب عنه بشكل ما دون أن يتمكن من التقاطها فيضيع بهاء اللحظة التي يضن الزمان بتكرارها.. كان ينفث الدخان من منخريه مثل تنين صغير وينحني صوب إبريق الشاهي ليسكب لي فنجان شاي أخضر بالنعناع، كنت أنظر إلى المنبه البرونزي الصغير الموضوع على الطاولة جواره اكتشفت أن بطاريته قد نفدت (لأن عقاربه لاتزال متوقفة)، حسب المنبه لايزال الوقت صباحا تبسمت وأنا أهمس لنفسي بأسى، صديقي أصبح خارج الزمان إنه يعيش في عصر خالد لا نهاية له، تذكرت فيلما (آخر تانغو في باريس) مارلون براندو سعودي أمامي قلت له وابتسامة متسائلة على شفتي يبدو أنك لم تعد تبالي بالوقت والزمان شرحت له عن الصور والأفكار التي عصفت بخاطري وعيني تقع على المنبه المتوقفة العقارب أجابني وابتسامة وديعة على شفتيه كلنا جبال نهايات مهما ارتفعت اليوم أوغداً كل الأشياء مصيرها للفناء والزوال، حتى الدموع ستنشف في النهاية.. لقد اقتنعت بعد هذه المرحلة من العمر أن الحياة لا قيمة لها أولاً لأنها زائلة، وثانياً لأنها سلسلة لامتناهية من الرغبات والتحقيقات والخيبات.. لم أعد أشعر بألم.. بفرح.. أخشى أن أكون قد مت دون أن أنتبه قالها ضاحكا.. كان رأي أنه لابد أن نحول الهزيمة دائماً في كل الظروف الى انتصار.. وأن نعيش كوردة الخلود التي طالما سعى (جلجامش السومري) للحصول عليها وذلك حتى لا نعيش نصف الحياة.. قلت له حقاً أنني مازلت حتى الآن لا أعرف كيف أرتب أيامي وكيف أرتب وجهي مثلما لا أعرف كيف يظنني الناس طفلاً أم شيخاً أم كهلاً!! الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني أمام أبواب شتى وأنني ما أزال مشروعاً للمغامرة خلف كل هذه الأبواب وأنني ما أزال الطفل الذي يطل بين فترة وأخرى على ملعبه الفسيح الواسع المسمى بالحياة وأن الكهولة ليست مؤجلة، بل آتية وأنها إن حضرت سأقتبس منها ناراً لعل في هذه النار مايقيني برد العالم الذي يحيطني والزمان الذي يخترقني.. كانت رابعة العدوية تصدح بصوت أم كلثوم في التلفاز عرفت الهوى.. منذ عرفت هواك.. وأغلقت عيني عمن عداك.. أحبك حبين.. حب الهوى.. وحباً لأنك أهل لذلك.. كانت يده تقبض على يدي وكأننا لا نريد أن يفلت أحدنا الآخر.. تركته وقت الغروب أقرب الأوقات إلى نفسي كوقت الفجر هذين الوقتين، دائماً أشعر أنني في حالة اندماج كلي مع ذاتي.. وليت صديقي يحتله نفس الشعور والإحساس فبين الفجر والغروب حياة!..

fouad5azab@gmail.com