-A +A
طلال صالح بنان
لم يبرع قومٌ في ظلم أنفسهم.. ويتفنون في جلد ذاتهم، كما يفعل العرب. العرب عجز أعداؤهم وخصومهم من أن يهزموهم وجودياً وثقافياً.. وأن ينالوا من تاريخهم وحضارتهم، أو يصدوهم عن نشر رسالة الإسلام الخالدة بين بني البشر. لم يكن أمام أعداء العرب وخصومهم، سوى استهداف وعي بعض «الأعراب» وضميرهم، ممن وصلوا إلى درجة اليأس والخذلان، ليرضوا بالعيش أذلاء.. منكسرين، غرباء عن قيم ثقافتهم، مفتونين بقشور وسطحية ثقافة أعداء قومهم، متنكرين لأصول العرب الحضارية العريقة وتاريخهم التليد.

اليوم أخذنا نسمع اتهامات العرب بالإرهاب، وأن خطابهم الديني يحض على العنف، من بعض «الأعراب»، بطريقة تفوق مزاعم أعداء العرب وخصومهم في اتهام ثقافة العرب ودينهم بالتحريض على العنف واحتراف الإرهاب! كما أخذ بعض «الأعراب» يروّجون لأفكار ومواقف وسياسات أعداء العرب وخصومهم التاريخيين، بدعوى الاقتراب من «الآخر» وتفهم دعاواه في اغتصاب الأرض.. واضطهاد البشر، والمساومة على المقدسات، وإن كان الثمن الاعتراف والتعايش وتطبيع العلاقات مع نظام عنصري بغيض! كل ذلك بدعوى تحقيق «سلام» هو أقرب للسراب منه للحقيقة.. وأبعد من تحقيق الأمن والاستقرار للمنطقة والعالم، منه من بعد الشمس عن الأرض.


الأسبوع الماضي صدر تقرير من اتحاد البرلمانيين الدوليين يدين ممارسات إسرائيل في الأراضي المحتلة ومن بينها اعتقال إسرائيل لنواب فلسطينيين اختارهم الشعب الفلسطيني بإرادته الحرة، كاشفاً إسرائيل ومن يساندها في الغرب، عن الوجه القبيح لديموقراطية انتقائية، تحرم شعوب الأرض الأخرى من ممارسة الديموقراطية الحقة. قرارات عديدة صدرت من مؤتمرات دولية مشابهة ولقاءات أممية مماثلة، كان مصيرها النسيان والإلقاء بها في غياهب دور المحفوظات المظلمة. إسرائيل والغرب، استمرأوا هذه النهايات المأساوية لقرارات تعكس ضمير العالم ووجدانه.

لكن ما حدث يوم الأربعاء الماضي، في ختام فعاليات مؤتمر اتحاد البرلمانيين الدولي، أخرج نهاية غير تقليدية لجلساته، سيظل يذكرها التاريخ، كونها صرخة لتذكير العالم بأن ضمير الإنسانية ووجدانها لم يموتا بعد.. وأن الحق له صوت أمضى من الرصاص، وأحَد من رعونة القوة الغاشمة.. وأن الباطل يظل زهوقاً جباناً رعديداً، لقيام الساعة. لقد انبرى رئيس البرلمان الكويتي طالباً كلمة في أقل من دقيقة عبر بها عن ضمير العالم ووجدانه، مما أثار موجة تصفيق حاد من معظم الوفود.

في تلك الكلمة المرتجلة لم يسحب مرزوق الغانم شرعية وجود الوفد الإسرائيلي في المؤتمر، بل سحب شرعية وجود إسرائيل نفسها ككيان عنصري يمارس إرهاب الدولة المنظم.. مغتصبٌ للأرض.. قاتلٌ للأطفال، لم ولن ينتمي لمجتمعات العالم المتحضرة ودوله المحبة للسلام... وأشار لرئيس الوفد الإسرائيلي وأعضائه بأن يغادروا القاعة؛ لأنه لا وجود لهم بين نواب شعوب الأرض الحرة. ما كان لرئيس الوفد الإسرائيلي وأعضائه إلا أن حملوا حقائبهم صاغرين، مغادرين القاعة، في ذل وانكسار، يعكسان الجبن المتأصل في هذا الكيان العنصري البغيض.

الملفت ليست موجة التصفيق الحاد التي استمرت من أول كلمة رئيس البرلمان الكويتي وحتى نهايتها، إلى أن خرج المندوب الإسرائيلي صاغراً ذليلاً من القاعة. بل ذلك الشعور بالخجل والحرج، ربما لم يكن ملحوظاً، الذي ظهر على رئيس وفد البرلمان الإيطالي، الذي أخفى وجهه بكفيه... وكأنه يهمس من تحت الطاولة ليقول للمندوب الإسرائيلي الجالس إلى يساره: أخرج لقد فضحتنا... حتى لا يزداد الأمر سوءاً.

لا إسرائيل ولا الغرب يمتلك من قوة الحجة وفصاحة الخطاب، ليرد على ما حدث.. من إهانة لإسرائيل وإحراج للغرب، في أقل من دقيقة في محفل دولي يمثل نواب شعوب الأرض، لا أثناء الواقعة، ولا حتى بعدها. المحزن المبكي، مما يبعث على الرثاء والاشمئزاز، أن بعض من يطلقون على أنفسهم «الليبراليين العرب» و«دعاة السلام»، مع إسرائيل.. والمحسوبين على العرب اسماً وربما لساناً، وليس ثقافةً ولا أصالةً وقيماً، انبروا يتسابقون في وسائل التواصل الاجتماعي وكتابة المقالات، لينالوا من تاريخية ورمزية، بل وحقيقة، ما حصل لإسرائيل وداعميها في الغرب، من إهانة كبرى وفضيحة مدوية، جراء كلمة ألقيت، في أقل من دقيقة، في محفل دولي ونقلت على الهواء مباشرة، شاهدها العالم بأسره. هؤلاء «المستعربون» من الأعراب، تنافسوا في الدفاع عن إسرائيل.. وتدافعوا لإنقاذ سمعتها العفنة، والاجتهاد في استرضاءٍ رخيصٍ لها، ولم يسعفهم سوى كلمة قالها مفكر عربي، بعد إخراجها من سياقها التاريخي، ومضمونها النقدي: واصفاً العرب بأنهم ظاهرة صوتية!

فات هؤلاء القوم من «المستعربين العرب»، بأن الكلمة، عندما تصدح بالحق منافحةً عن قضايا مصيرية عادلة، هي في الحقيقة أمضى.. وأقل تكلفة.. وأوقع أثراً من استخدام القوة الغاشمة، التي بدورها لا تستغني عن الكلمة، لتفسير وتبرير وإضافة مسحة أخلاقية لحركتها الرعناء. كما أن الكلمة، تأتي بعد القوة مباشرة، في نصرة الحق ومقاومة الباطل والنهي عن منكر القول والسلوك، كما جاء في معنى الحديث الشريف. بالإضافة: الكلمة أكرم وأنجع وأبعد أثراً، من السكوت الخانع الذليل، ما بالك إذا كان سكوتاً «شيطانياً» عن باطلٍ ومنكرٍ وسلوكٍ مشين، عوناً لظلمٍ.. وسنداً لباطلٍ.. وتبريراً لفحشٍ، واستسلاماً لواقعٍ مذلٍ، بدعوى «الواقعية» و«البراغماتية».

إن مآسي العرب ونكباتهم، ليست حصرياً، بفعل أعدائهم وخصومهم... بل في معظم حقيقتها، نتيجة لوجود وتنامي طابور خامس من «المستعربين الأعراب» أدعياء «الثقافة» و«الليبرالية»، يعملون في الخفاء والعلن، بدون حياءٍ.. ووازعٍ من ضمير.. أو رادعٍ من قيم، لخدمة أجندات أعداء العرب وخصومهم.

talalbannan@icloud.com