-A +A
منى التميمي
«الرجل العظيم تظهر عظمته في الطريقة التي يعامل بها البسطاء» -توماس كارليل

يحدث أن تُرغم على اختبار حياة جديدة موازية للحياة الطبيعية التي كنتَ تحياها، لكنها حياة مغرقة في البياض.. البياض الذي يَشِي بالنقص لا الاكتمال.


حدث هذا عندما أصيب طفلي بمرض مفاجئ اضطرنا إلى الإقامة عدة أيام في المستشفى الجامعي ومعايشة واقعٍ جديدٍ.. تتسارع أحداثه وتتشابه بما لا يجعلك تتمكن من الاستيعاب السريع لما يجري.. ثم تختبر نمط حياة لم تعتدها؛ إذ تتحول إلى رقم.. مريض 1/‏‏‏‏1.. غرفة (1ب) وتبدأ ذاكرتك تحفظ الأرقام.. في جناح (11) المخصص للأطفال تنام على سريرٍ للتو نهض منه مريض سابق، وتشترك مع ثلاثة لم ترهم من قبل في غرفة نوم واحدة لعدة أيام.. تفصلكم أقمشة لا تقي من هواء أو صوت أو همس.. تتنفسون القلق والوحشة.. والخوف من المجهول! تظل تسهر ليلك منتبهاً لأنين الأطفال وصراخهم.. وحوقلة الأمهات ودعائهنّ.. ثم تبتدئ يومك الخامسة فجراً في غرفة بيضاء باردة رطبة.. تمتص دماء طفلك! وتعلك بكاءه وصراخه ببرود.. في روتين يومي.. تقوم به الممرضات بطريقة آلية جداً! حتى إذا ما دقّت الساعة الثامنة صباحاً فُزّع عنك، وقفزتَ تبحث عن الطبيب.. تتحسس صوته ووجوده ليلقي عليك قراءاته الصباحية ونتائج التحاليل.. ثم يرشدك إلى الخطة العلاجية التي تناسب وضعك الحالي... كل ما مر بك تحتمله.. ما عدا.. انتظارك للقاء هذا الطبيب.. تستمع لصوت دقات قلبك أعلى من صوته وهو يتحدث..

الذي ما زال مؤثراً في نفسي ونفس كل مريض وذوي المريض في خضمّ كل هذه الأحداث هو أسلوب الطبيب وطريقة تعامله مع المرضى.. الكاريزما التي يظهر بها.. البياض الذي يرتديه على روحه.. قبل جسده! عبوس وجهه.. أو انفراج أساريره.. مرحه.. ردوده المقتضبة والغامضة أو ردوده المليئة بكلماتٍ مسهبة تهدئ من روعك.. وتشبع فضولك القَلِق المتسائل دوماً!

إن مهنة الطب مهنة عظيمة، وإنسانية «ومن أحياها فقد أحيا الناس جميعا»، والطبيب الذي يجمع بين إخلاصه في مهنته وتطبيب الناس.. وصبره على الجهد البدني والنفسي الذي يعايشه وملاقاة المرضى وذويهم بوجه حسن؛ قد جمع الحسنيين.. وحسبه الدعوات المرتفعة إلى السماء والسمعة الحسنة في الأرض.

ولو سألتني كيف جرى الأمر معكم؟ لأجبت: إن بعضهم قد أزاح من عاتقنا نصف الهمّ والخوف والقلق الذي شعرنا به إبّان معرفتنا بالأمر، بإنسانيته المتدفقة في عرض الحالة وشرحها.. ومن ثَمَّ تفهمه.. وصبره على سيل الأسئلة التي أغرقناه بها.. ومتابعته المستمرة.. وأن آخر قد زاد في اتساع رقعة المصيبة.. وأضاف همّ ملاقاته إلى همّ ما نعايشه؛ بجفائه وعبوس وجهه، وتوقعاته المتشائمة وغير المبالية بحالة المريض النفسية الذي يرقب ويفسّر كل كلمة يتفوه بها الطبيب، وبعضهم يرى أنّ ليس عليه إطلاع المريض على تطورات الحالة بدقة إنما يكتفي بإشارات لا تساعد في فهم المريض لحالته الصحية، رغم أهمية ذلك لاستقراره النفسي بعيداً عن التفاؤل الخادع أو التشاؤم غير المبرر!

وبعد شهرين من اختبار واقع حياة المستشفى.. فإنني أُكبر في كل طبيب جعل همه تقديم الرعاية الصحية بكل إخلاص وتفانٍ، وأنفق من وقته وجهده في طمأنة المرضى ومراعاة أحوالهم النفسية، وإن على المرضى وذويهم مراعاة الجهود العظيمة الذي يبذلها الأطباء، والضغوط التي يواجهونها في سبيل حياة أفضل لك وللآخرين.. إنهم ــ كما رأيتُ ــ يُنفقون أكثر من نصف يومهم لمداواة المرضى في المستشفى والتنقل بين الأجنحة وغرف الطوارئ ومتابعة أحوالهم خارجه.. وهم إضافة إلى ذلك أناس لهم حياتهم الخاصة التي يُكابدون فيها ما يُكابدون.

وفق الله كل إنسان جعل من مهنة الطب العظيمة مهنة له.. وجهد جسده لإصلاح أجساد الآخرين.

* باحثة في الأدب والنقد ومحاضرة في جامعة الأمير سطام.