-A +A
سعاد عزيز
على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الکرام المکارم


هذا البيت الرائع والخالد للمتنبي، حضرني وأنا أتابع الأصداء والتداعيات المتباينة للزيارة التأريخية التي قام بها الملك سلمان بن عبدالعزيز لروسيا والتي لم يتسنَ لزيارة أي زعيم عربي أو إسلامي آخر أن حظيت بها، بل وحتى يمکننا القول إنه تم التعامل مع هذه الزيارة في مصاف زيارات زعماء الدول الکبرى، وهذا الأمر لم يحدث اعتباطا وإنما إثر الحکمة والعقلانية السعودية الفذة التي تمکنت مرة أخرى من لفت الأنظار إليها وعن القدرة الاستثنائية لها في العمل والتحرك في المکان والزمان المناسبين، خصوصا أنها جاءت لتدحض کل ما قد قيل ويقال عن إنغلاق السعودية وحصر تعاملها التجاري والعسکري على الغرب عموما والولايات المتحدة الأمريکية خصوصا، وتؤکد وبکل جلاء إن العقلية السياسية السعودية أکبر من أن تحدد في قالب معين.

زيارة الملك سلمان لروسيا وفي هذا الوقت تحديدا وليس في أي وقت آخر، أتت لإنها قد حددت أهدافها ومراميها بدقة وأناة قبل القيام بها، وهي تمت بناء على متغيرات إقليمية ودولية لها علاقة وارتباط قوي بأمور ومصالح ليس السعودية وحدها فحسب وإنما مصالح العالمين العربي والإسلامي أيضا، خصوصا بعد أن لعبت إيران دورا سلبيا من أجل توظيف السياسة الروسية لصالح أهدافها ومصالحها، لکن وکما هو واضح لا يمکن أبدا تحجيم سياسة دولة عظمى ضمن مصالح سياسية لدولة إقليمية معينة کإيران، فهذه قراءة وتعامل خاطئ من جانب المسؤولين الإيرانيين، لکن يمکن التنسيق والترتيب لکي تتماشى المصالح والأهداف المشترکة لروسيا ودولة أخرى باتجاه وسياق يخدم الطرفين، کما فعل الملك سلمان في زيارته لموسکو، لکن الذي يجب أن نشير له هنا هو إن زيارة العاهل السعودي تجري في وقت نجد فيه ازدياد الفجوات بين طهران وموسکو وبروز التقاطع بينهما کما أکدت وتؤکد تقارير وتحليلات مختلفة بهذا الصدد.

المعروف والسائد عن طبيعة ونوعية العلاقات السياسية والاقتصادية التي تقيمها السعودية مع دول العالم، إنها تراعي مصلحة الجانبين وتسير وفق نهج قويم وواضح لا تکتنفها أو تتخللها الشوائب والأدران؛ ولذلك فقد کانت دائما مورد ثقة واعتبار على مختلف الأصعدة، ولذلك فإن أية زيارة کان يقوم بها أي ملك سعودي إلى أية دولة فإن الأنظار تتجه إليها ويکتب ويقال الکثير عنها.

مسيرة العلاقات بدأت بصورة حثيثة بين الجانبين منذ عام 1994 عندما تم توقيع العديد من الاتفاقيات کان أبرزها مذکرات تفاهم بين البلدين في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار، ونمت أکثر في العام 2003، لتشمل قطاعات أخرى کالغاز بالإضافة إلى العلوم التقنية وفي العام 2007، عقدت اتفاقيات جديدة بين الجانبين تتعلق بالاتصالات والتعاون في القطاع المصرفي، بالإضافة إلى تجنب الازدواج الضريبي. آخر مراحل تطور العلاقات الاقتصادية بينهما كانت في العام 2015، بست اتفاقيات في الطاقة النووية وعلوم الفضاء، اتفاقيات ما بين صندوق الاستثمارات العامة السعودي وصندوق الاستثمار المباشر الروسي. غير إن زيارة الملك سلمان وکما تصفها معظم الأوساط السياسية بالتأريخية فإنها حققت ما يمکن وصفه بالقفزة النوعية في العلاقات إلى الأمام ومن شأنها أن تفتح الکثير من الأبواب بحيث تصل إلى مستوى علاقات استراتيجية ومن الممکن جدا أن يدفع ذلك موسکو إلى منح اهتمام استثنائي لهذه العلاقات خصوصا أن هناك توجهات سعودية بتوسيع مجالات الاستثمار والاستيراد والتصدير وإغنائها بما تتماشى مع المرحلة الحالية والمراحل اللاحقة.

أکثر شيء مميز في هذه الزيارة، إن الملك سلمان أدلى بتصريح من موسکو کان له مغزاه ومعناه في العالمين العربي والإسلامي، عندما أکد أن تحقيق السلام والاستقرار في منطقة الخليج والشرق الأوسط وما تشهده من أزمات في اليمن وسوريا وغيرها يتطلب توقف إيران عن سياساتها التوسعية، والالتزام بمبادئ حسن الجوار، واحترام الأعراف والقوانين الدولية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. هذا التصريح الذي سلط الأضواء مرة أخرى على العين السعودية التي تراقب دائما وعن کثب التحرکات والنشاطات الإيرانية المريبة في المنطقة والتي يبدو إن روسيا صارت تعلم بذلك جيدا وتفکر بخيارات مختلفة لتلك التي يفکر بها القادة الأيرانيون، خصوصا أن الصفقة التسليحية التي تم عقدها خلال هذه الزيارة والتي أغاضت طهران تبعا لما يراه مراقبون ومحللون سياسيون وعسکريون، هي خطوة مهمة جدا باتجاه إعادة تقييم للسياسة الروسية تجاه المنطقة، ذلك إن هذه الأسلحة ستعزز کثيرا من القدرات والأمکانات العسکرية السعودية تجاه الأخطار المحتملة من أي إخلال بالأمن والاستقرار في المنطقة، وفي کل الأحوال فإن هذه الزيارة بإمکانها أن تؤثر إيجابيا على الدور الروسي في المنطقة وتدفعه وبکل دعة وهدوء باتجاه يخدم أمن واستقرار المنطقة ويضيق الخناق أکثر فأکثر على طهران ومساعيها التوسعية والتخريبية في المنطقة.