-A +A
أحمد فلمبان *
يقول الناقد الفرنسي كلود روشان: (إن ما يميز مصورا عن الآخر هو «بصره»، الذي يرفع من شأن فنان تشكيلي عن غيره من البشر، وإن أهم وشائج الفكرة التشكيلية هي «الحركة»، لأنها الميزة المتفردة لكل فنان في مشروعه التشكيلي، فهي أحيانا أي «الحركة» تتفوق على كل مقومات الفنان، بل وتصبح هي القيمة الكبيرة في عمله الإبداعي).

في أعمال الفنانة التشكيلية سلوى الرفاعي، نجد سبرها الجامح للتخلص من القيود الفنية التقليدية، وحكم الألوان وقصيدتها وتسير في اتجاه استخلاص إمكاناتها غير المرئية والحركية، ومحاولة دمج الأشكال والتكوينات في منظومة التجريد المفتوح على آفاق التأويلات المطلقة، وتميل 180 درجة إلى الرمزية في بعض الحالات والانفعالات وتطويع العناصر وتداخلاتها لتسبح في هذه التراكمات من الصور التي تصنع المعادل الموضوعي للعمل الفني، لتعبر عن إحساسها الذاتي بالأشياء اللا مرئى من خلال المرئى، حيث تجتمع المعاني المختلفة والمختبئة خلف الصور في الإطار الرمزي لتبحث عن معاني الحياة ودفئها، فغايتها هي الإيحاء بالدهشة والذهول، والخروج من المألوف إلى غيره أو العكس والاستخدام المتنوع للمفردات والرموز لتشتبك في ما بينها في ايقاع متزن وتنظيم متوافق وتناغم مؤثر، وتطير بها إلى آفاق التلقائية يدفعها إلى الحيرة عن طريق بعض «الحركات» المتناسقة تبعاً للحدث الذي يناسبها، توحي عن مكنوناتها أسراراً وغموضاً، تحمل في بواطنها إجابات التساؤلات الغامضة عما يختلج في النفس من اتقادات وتعاطف مع الهم الإنساني، بومضات تثير عين المتلقي وتحرض فكره وتوقظ مشاعره وتدعوه للتفاعل معها، الذي يمكنه في بعض الحالات رؤيتها بأكثر من معنى وأكثر من وجهة نظر، واستخلاص عبق الألوان في هذه المنظومة فتبدو أحياناً تتحاور في ما بينها ومرات أخرى كأنها في صراع دائم مع الآخر ولكنها دوما تفرض إمكاناتها وتتعانق مع الخطوط لتتشكل في أعماق اللوحة بموضوعات متشعبة لا تشكل لها أهمية بذات القدر من محتواها ومضمونها، تاركة خطوطها وعلاماتها تتبعثر وتسبح في حرية وتلقائية بخطوط سريعة الوضع والتنفيذ شديدة الحيوية والحركة تقترب كثيرا من عالم الأسطورة، تعكس تلك المعاني المحطمة من مكامن النفس الإنسانية المجبولة بالهم والظلم والقهر، وتحمل في طياتها إجابات التساؤلات الغامضة، لتتحول عملية الممارسة إلى حالة من التعبير العام للمجتمعات الإنسانية يشحذ معها تفاعلاتها في وضع حركي وإعادة بناء العناصر وتنظيمها بطريقة تثير المشاعر على خطى التعبيريين، بمعالجات متعددة تبرز انفعالات الأشخاص على الضوء المتجانس يفضي إلى علاقات بصرية فاعلة على الصعيد التعبيري والجمالي، فالفكرة هنا سيدة الموقف وكمن يتنازل عن السيطرة الذهنية من أجل سيطرة أخرى تكتسب صفة التشكيل السردي المتنوع التي هي المضمون الأساسي في الرؤية البصرية المحمولة على صهوة الألم، لتطير مع فراشاتها الملونة بمرايا الروح إلى عوالم الهم الإنساني وقضايا المجتمع وحالات التوتر والقلق وصراعات العصر، يستمد روعته من (شيء ما) لأنها توحي بها أسراراً لا تصفها الكلمات والعبارات، وهذا هو هدف الفن والجمال فقيمته تكمن في «السر» الذي يدفعنا إلى التأويل ومعايشة الخيال، لا يفهمها ولا يعيها إلا من ذات الإحساس والمشاعر، لأن الفنان بغير البصيرة الغنية بالخيال إنما يرسم سطوحا قد تكون صورة بارعة سليمة من كل خطأ مشحونة بأعنف العاطفة، وقد تحظى بأرفع المدح والإعجاب ولكنها تبقى رسميا سطحيا، وكذلك المتلقي الذي ينظر إلى الرسم بدون الخيال لن يرى إلا سطوحا حتى لو نظر إلى الروائع وكلما ازداد تأملا بالسطح قل فهمه لما هو كامن وراءه، فالفن عندها لا يُمنطق أو يُعلل أو يُزمن، إنما يخترق البصيرة، ومع ذلك فإن بوسعها أن تستكشف بقعة المساحة الساكنة التي تتلاعب بها لتُفرغ ما بداخلها لتحقيق قوة التعبير في التكوين من خلال الخط وعبق اللون.


* ناقد وفنان تشكيلي