-A +A
عبدالله الرشيد
اشتكى الفنان الكويتي الراحل عبدالحسين عبدالرضا ذات مرة من الأذى والتهديد الذي يتعرض له من قبل المتطرفين الذين يريدون إيقافه بالقوة والنار عن إقامة مسرحياته وأعماله الفنية، تحدث بحرقة قائلا: «هؤلاء الذين حرقوا محلاتي، وضربوها بقذائف (آر بي جي) في الكويت، بالسالمية، وحولي، والفنطاس، من هم؟ هؤلاء هم المتطرفون للأسف، بل حتى أنه بعد تفجير مركز الفنون بسنوات، أحدهم أنّبه ضميره واعترف».

هذه القصة التي أشار إلى طرف منها الفنان عبدالرضا، تعود إلى الخامس عشر من يوليو عام 1991 -أي بعد تحرير الكويت من الغزو العراقي بعدة أشهر- حين تعرض مركز الفنون الذي يملكه لقصف بقذائف الهاون، وقيدت الحادثة حينها ضد مجهولين.


لكن بطل القصة، ومن رسم خطتها، ووفر الأسلحة والقذائف، هو المنظر الجهادي، ومفتي تنظيم القاعدة، صاحب الكتب التكفيرية الأردني من أصل فلسطيني عصام البرقاوي، الشهير بأبي محمد المقدسي، وسن بهذا الفعل نمطا عنيفا انتهجه بعض أتباعه، فحدثت أعمال مشابهة استهدفت مراكز للفنون سواء في الكويت كما حدث مع مركز الفنان عبدالله الرويشد الذي تعرض لإطلاق كثيف بالرصاص على واجهة محله عام 1994، وقبل ذلك قامت مجموعة تكفيرية متأثرة بأفكار المقدسي بإحراق متجر لبيع أشرطة الفيديو شمال مدينة الرياض عام 1991.

بدايات قصة المقدسي مع عبدالحسين عبدالرضا تعود إلى مطلع التسعينات، في تلك الفترة كان المقدسي بأفغانستان، حيث شارك في الحرب الأفغانية منظراً ومفتياً شرعياً لتنظيم القاعدة، ومرشداً دينياً للمعسكرات القتالية هناك. حين انتهت الحرب ضد السوفييت قرر المقدسي العودة إلى الكويت -التي هاجر إليها وهو طفل صغير مع عائلته، ودرس فيها جميع مراحل التعليم العام- في لحظة عودته كانت الكويت تقع تحت نير الغزو العراقي عام 1990، استطاع المقدسي في تلك الفترة التحرك بسهولة، حيث كانت قوات صدام تتعامل بليونة وتسامح مع بعض الجنسيات التي صُنفت حينها بـ(المتعاونة) -حسب أوضاع وظروف تلك المرحلة- من بينها الجنسيات الفلسطينية والأردنية واليمنية وغيرها.

حاول المقدسي في تلك الفترة استعادة نشاطه ودروسه في الكويت وبث أفكاره من جديد، من أجل تكوين مجموعة من المؤمنين بأفكاره ومذهبه في العقيدة والجهاد الذي يقوم على مبدأ الحاكمية، وتكفير الحكام والشرطة ورجال الجيش، أو من يصفهم بـ«الطواغيت وأعوانهم»، مستغلا ظروف الحرب، والاضطراب الأمني في البلاد، فأقام عددا من الدروس والمحاضرات في المساجد والبيوت، وحاول استمالة بعض الكويتيين من خلال تزوير الهويات لهم، إما هويات أردنية أو يمنية وغيرها حتى يستطيعوا التحرك والتنقل بيسر وسهولة، -وفقا لما يرويه المقدسي في سلسلة مذكراته التي كانت بعنوان (ولكن كانوا ربانيين)-.

يذكر المقدسي عن تلك المرحلة، أنه ركز جهده وتفكيره على استقطاب العسكريين وضباط الجيش والشرطة، خصوصا ممن بقي منهم في الكويت أثناء الغزو، يقول: «قدمنا دروسا لبعض الشباب الكويتيين، منهم من كانوا عسكريين، ففهموا العقيدة، والتوحيد، ووعدوا بأنه حين يعود النظام الكويتي سوف يلقون رتبهم العسكرية، ويخرجون من الجيش.. لقد كانت تلك الفترة مفيدة جدا بالنسبة لنا».

بعد أن خرجت القوات العراقية من الكويت، كانت الأسلحة منتشرة بشكل كبير، من بقايا ومخلفات الجيش العراقي، فالخنادق والدبابات والمعدات العراقية مبعثرة متناثرة في البلاد، بل استخدمت بعض البيوت التي غادرها أهلها أثناء الغزو كمراكز ومخازن للجيش العراقي ومنصات لإطلاق الصواريخ. وجد المقدسي نفسه أمام فرصة ذهبية، فأخذ يجمع هذه الأسلحة ويخزنها في بيته، حتى جمع كمية كبيرة من رشاشات الكلاشينكوف، والقنابل المتفجرة، والمسدسات، وقذائف الهاون، بل يذكر أنه وجد صواريخ (سام7) المضاد للطائرات، لكن لكبر حجمها وعدم قدرته على نقلها، اضطر إلى دفنها في مكانها، فـ«ربما يعود إليها يوما».

شارك مع المقدسي في عملية جمع السلاح عدد من الشباب المتأثرين بفكره وبعض العائدين من أفغانستان الذي وجدوا في هذه اللحظة فرصة لا تعوض من أجل التزود بمؤنة تساعدهم في القيام بأعمال جهادية مسلحة في المستقبل.

وهذا ما حدث فعلا، من خلال جمع الأسلحة خطرت للمقدسي فكرة أن يقوم بعملية مسلحة ومباغتة ضد القوات الأمريكية والبريطانية الموجودة في الكويت، خصوصا في ظل انتشارهم وتداخلهم بين الناس، وترحيب الشعب بهم، وانخفاض مستوى الانضباط الأمني، مما جعلهم هدفاً مغرياً وسهلاً في نفس الوقت -كما يقول-.

لكن المعضلة التي واجهت المقدسي -حسب روايته-، هو حاجته لمن يساعده في القيام بالمهمة، لكن كيف يقنع الشباب الكويتي بهكذا عمل ضد القوات التي جاءت تحررهم وتخرج المحتل من بلادهم!، يقول: «لقد كان هذا أمراً عسيراً». لذلك اضطر أن يستعين بكوادر عربية غير كويتية، فعرض هذه الفكرة على شاب مصري، فأيدها وتحمس لها. يكمل: «لكن واحدا لا يكفي، كنت أفكر أن أقوم بقصف مواقع للبريطانيين والأمريكان على ساحل البحر في منطقة الفنيطيس، وكانت المواقع عبارة عن بيوت جاهزة وخيام، مما يجعل أثر القصف عليها أبلغ وأخطر. كنت أفكر في كيفية القيام بهذا العمل، الأسلحة وقذائف الهاون جاهزة لدي، لكن من يساعدني في القيام بهذه العملية!».

عرض المقدسي الفكرة مجددا على كويتي قابله في أفغانستان، فوافق، وأبدى استعداده في البحث عن آخر يساعده في إتمام الأمر، فجاءه بشاب مستعد للانضمام للعملية، يقول المقدسي: «لم ارتح لهذا الشاب الجديد، فهو لم يشارك معنا في أفغانستان. لكن أصبحنا الآن أربعة أشخاص جاهزين للقيام بالمهمة»، يضيف: «في تلك الأثناء قبيل التحضير للعمل، جاءني الشابان الكويتيان، وقالا لي: قبل أن نقوم بفكرتك، نريد أن نفجر مركز الفنون، ثم بعد ذلك نقوم معك بالعمل الذي تنوي القيام به»، يعقب المقدسي موضحاً: «مركز الفنون كان يملكه ممثل خبيث اسمه عبدالحسين عبدالرضا، هو ممثل محبوب عند عوام الكويتيين، واستغل محبته في أن بدأ يستهزئ بأهل الدين والمشايخ في بعض مسرحياته، ولذلك تحامل عليه هؤلاء الشباب، فكان تفكيرهم منصبا بهذا المستوى يريدون الانتقام من هذا الممثل، ويريدون تفجير مقر شركته في السالمية، ووعدوني بأنه إذا نجح الأمر، ولم يحصل شيء أنهم سيقومون معي بالعمل الذي كنت أنويه».

وافق المقدسي على هذه الفكرة، وبدأ برصد مركز عبدالحسين عبدالرضا، وتم تجهيز قذائف الهاون، وجهزوا سيارة خاصة للقيام بالمهمة، وتغيير لوحاتها الأصلية بلوحات أخرى أخذت من السيارات المهملة بعد الغزو، يقول المقدسي: «جئنا بعد صلاة الفجر إلى الموقع، كنا متفقين على أنني أرمي القذيفتين، ثم الأخ الآخر الذي كان معي في أفغانستان يرمي القذيفة الثالثة، وبعد ذلك نأخذ الحاويات الفارغة ونتخلص منها في مكان آخر.. توقفنا أمام المركز بعد الفجر، وانتظرنا حتى يفرغ الشارع من السيارات المارة، فنزلت وقذفت المقذوف الأول وأصبت الهدف، ثم أطلق الشاب الآخر القذيفة وأصاب الهدف، وكنت أنوي أن أذهب للسيارة حتى آخذ المقذوف الآخر، لكن من كان يقود السيارة حين سمع صوت الانفجار، واهتزاز العمارات من حوله، أصيب بالهلع، فتحرك بالسيارة وتركنا، فلحقنا به حتى ركبنا معه وغادرنا المكان، وانطلقنا إلى البر».

استيقظت الكويت صباح ذلك اليوم على نبأ تفجير إرهابي طال مركز الفنون، أصبح حديث الناس وشاغلها، يقول المقدسي: «على أثر هذا العمل قام بعض الشباب الجهادي بأعمال مشابهة، فذهب بعضهم وضربوا مركز الفنون في منطقة خيطان، وآخرون أطلقوا الرصاص على مركز الفنون في الفحيحيل».

قيدت الحادثة (تفجير مركز الفنون في السالمية) في حينه ضد مجهولين، كان المقدسي ورفاقه يتجولون في المجالس، وأماكن تجمعات الإسلاميين يدافعون عن مشروعية هذا العمل، دون أن يفصحوا لأحد أنهم من قاموا به.

بعد أن سكنت الأحوال وهدأت، عاد المقدسي إلى رفاقه فذكرهم بوعدهم في العمل ضد القوات الأمريكية، لكنه فوجئ بردهم، كانوا متململين ومترددين، اعترض أحدهم وقال الأمر صعب هذا عمل كبير خطير، وقد تزهق في ذلك أرواح ودماء، رد المقدسي عليه غاضبا: «طبعا نحن ذاهبون لإزهاق الدماء والأرواح، أجل حنا رايحين نلعب مع هؤلاء الناس، نحن سنلقي عليهم قذائف هاون، وإلا ظننتم أننا سنلقي عليهم ألعابا نارية!».

يقول المقدسي: «كان أكثر شاب رافض لهذا لأمر، هو ذلك الشاب الذي لم أرتح له، ولم يكن معنا في أفغانستان، هذا الرجل أصلا كان له تاريخ في تعاطي المخدرات، وكان هو السبب في كشف عملية مركز الفنون، فبعد أن غادرت الكويت وعدت إلى الأردن، ضعف هذا الشاب وعاد إلى المخدرات، وقبض عليه بسبب تعاطيه، وفي السجن طلب من أحد ضباط الشرطة حبوبا مخدرة، وفي لحظة ضعف وحاجة للمخدرات قال للشرطي إن أعطيتني اعترف لك في قضية سجلت عندكم ضد مجهول لا تعرفها، فذكر له عملية مركز الفنون، وكشف عن جميع الأسماء، وذكر أنني كنت وراء العمل، وبالفعل اعتقل جميع أعضاء الخلية، وحوكمت أنا غيابيا».

صدر في حق المقدسي حكم بالسجن سبع سنوات، وغرامة 20 ألف دينار، وأصبح اسمه على قائمة المطلوبين في الإنتربول منذ ذلك الحين بسبب تفجير مركز الفنون.

تمضي الأيام، في عام 1994 ألقت السلطات الأردنية القبض على المقدسي فيما عرف حينها بـ«تنظيم بيعة الإمام»، التي تعد أول ظهور علني لتيار السلفية الجهادية في الأردن. كان للمقدسي دور فكري رئيسي في هذا التنظيم. أما الخيط الذي قاد السلطات الأمنية إليه هو انكشاف خلية إرهابية، من بين أفرادها أبو مصعب الزرقاوي الذي عثر في منزله على قنابل ومقذوفات، وبعد التحقيق اعترف الزرقاوي بأنه حصل عليها من أبي محمد المقدسي من أجل القيام بعمليات مسلحة، وكانت تلك الأسلحة هي ذاتها التي كان يجمعها المقدسي في الكويت من بقايا الغزو العراقي، واستطاع تهريبها معه حين غادر إلى الأردن.