-A +A
نجيب يماني
بمقدور أي إنسان متابع للمملكة العربية السعودية منذ ملحمة التوحيد وبطلها المؤسس الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، أن يرى أن كافة القرارات التي تتخذها القيادة على مر الحقب والعهود، تتسم بالحكمة العالية، والتقدير المحسوب بدقة، على مستوى الحال والزمان، بما يتيح لكل قرار تصدره القيادة، مهما كان، الفرصة المهيئة للقبول، والتعاطي معه بسلاسة ويسر وانفتاح، وبخاصة في القضايا التي تعالج الأوضاع الاجتماعية المتوارثة، وحتمية الانتقال بها من مرحلة إلى أخرى، وفق المتغيرات على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي؛ وهو انتقال لا يخرج بالضرورة عن الثوابت المرعية والمحكومة برواسخ الشريعة الإسلامية. ولعل قضية قيادة المرأة السعودية للسيارة، ظلت من أعقد القضايا المتوارثة في الساحة المحلية ردحا من الزمن، لعوامل يختلط فيها العرف الاجتماعي، بالهاجس الأمني، مع محاولات لإلباس ذلك غطاء دينيا، لا يستند إلى نص شرعي قاطع الدلالة بالمنع، وواضح الإشارة بذلك.. وتدرجت القيادة الرشيدة عبر الحقب والعهود في تحريك هذا الموضوع وطرحه للنقاش، ليفتح بذلك النوافذ نحو التعاطي مع الآراء، والقبول بالرأي والرأي الآخر فيها، لتجيء المحصلة من كل هذا التدريج والمناقشة المفتوحة، بهذا الإعلان التاريخي من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بالسماح للمرأة بقيادة السيارة. إن لهذا القرار في هذا التوقيت بالذات دلالات من المهم أن تؤخذ في الاعتبار، ورموزا وإشارات من المفيد أن يستصحبها الجميع، سواء الذين استقبلوا هذا القرار بالترحاب المطلق، أو الذين تأرجحوا فيه بين القبول المنقوص والحذر الذي يماسس دائرة الرفض بحسابات تدور في أذهانهم، ولا بد لنا من أن نناقش الأمر معهم على قاعدة الحرية، وقبول الآراء. فدلالات هذا القرار تكمن بشكل أساسي في توقيته، وليس في ماهية صوابه في ميزان الشرع، فتلك قضية محسومة، وزاد من حسمها ما أشارت إليه هيئة كبار العلماء بمطلق الإباحة في ميزان الشرع، ويفتش عن ما يناظرها قياسا في حياة المسلمين قديما وحديثا، فليس ثمة مجتمع نحا نحو تحييد المرأة من قيادة السيارة سوى المجتمع السعودي، بما يجعل القضية في الأساس قضية مجتمع، وليس قضية دين ونصوص شرعية، وعليه فإن الاستناد الديني يقف بالكامل في حق المرأة لتولي أمر قيادة السيارة بنفسها.. وتبعا لهذا يأتي التقدير المثالي لقيادتنا الرشيدة في استشعار التوقيت المناسب لإصدار هذا القرار، ويتجلى هذا التقدير بالنظر إلى رؤية المملكة 2030 التي تستشرف آفاقا رحبة على كافة المستويات، بما يحتم كذلك أن يكون المجتمع بكل أطيافه مستعدا ومهيأ لهذه الانطلاقة الكبيرة، فمفهوم أن المملكة ووفقا لهذه الرؤية متجهة صوب تفعيل كل مفاصل المجتمع، لتغادر مربع العقل الاستهلاكي، والسلوك الاتكالي إلى غايات المشاركة في الحركة الاقتصادية بكل نوافذها، الأمر الذي يفتح الآفاق نحو توطين الوظائف، وتوسيع مظلة السعودة، وتحجيم دور العمالة الوافدة، وتمثل وظيفة «السائق الخاص» إحدى الوظائف التي ما كان لها أن تكون حاضرة في سوق العمل السعودي لو أن جميع أفراده كانوا بحجم المسؤولية التي تجعل من أمر قيادتهم لسيارتهم أمرا شخصيا، بالذات المرأة على وجه التحديد، بوصفها العنصر الذي عطلت إمكانياته في هذا الجانب لأمور اجتماعية بحتة، وبحجج أوهن وأهون من أن تثبت أمام النقاش البصير، فحركة المرأة بالسيارة قبل هذا القرار ستكون هي ذات حركتها من بعده، والفرق الوحيد أن هناك «أجنبيا» كان يتولى إيصالها إلى حيث تريد لقضاء أمورها وشؤونها الحياتية المباحة، وبعد هذا القرار تنحى ذلك «الأجنبي»، وتولت المرأة القيادة بنفسها، في مشهد سيدل كل الدلالة على عامل الثقة المطلوب، وتقدير دور المرأة المحجوب، وتوفير اقتصادي يتسق ويتماشى مع رؤية المملكة المستقبلية. والدلالة الأخرى المأخوذة من هذا القرار أنه يقطع الطريق على المزايدين، الذين كلما أرادوا أن يرموا المملكة بسهم من دفاترهم الصدئة حرمان المرأة السعودية من أبسط حقوقها في قيادة السيارة، وما دروا الحكمة في السير نحو هذه القضية بالخطوات الوئيدة، والتقديرات المحسوبة، فهذا القرار من شأنه أن يسكت هذه الأصوات الناعقة، والنوايا المفخخة.. وحتى على مستوى الداخل، فالأمر مداره على الأسر وما تراه بنفسها، فالحرية متاحة أمامها أن تستمتع بالقرار وما يدخره من حسنات، وأن تقف منه على مبعدة، شريطة أن لا يخرج علينا أحد بالمنع والتحريم دون سند او دليل، فلا بد أن يوقف عند حده حيئنذٍ. نعم، ستكون لهذا القرار مظاهره العديدة في جسد المجتمع في الفترة المقبلة، وهي امتحان جدير بالمجتمع بكل فئاته أن يدخله بوعي، ويدرك المغزى والمرمى منه، وأن لا ينكفئ على ما ورثه في السابق حيال هذه القضية من قناعات غير مسنودة بشرع، ما عادت متسقة مع الظرف الزماني ولا المكاني.

ثمة همسة أتوجه بها إلى المرأة السعودية، وقد وجدت الدعم والعون من قيادتنا الرشيدة، إن هذا القرار يراهن في الأساس على وعيك أيتها المرأة العزيزة، وقدرتك على الاستفادة منه في ما يخدم المجتمع، فالأمر ليس ترفا نهايته عبث، وليس حرية تفضي إلى فوضى، ولكنه تقدير لمتغيرات حتمت أن يكون مقود السيارة بيدك، لتتحرك خطاك في رحابة العطاء بثقة، وفي الطرقات بذات الحشمة المعروفة عنك، والذوق الذي تتسمين به وإنه لرهان ناجح بلا شك، لأن جوهرك الوعي، وتاجك الوقار، وآخر دعواهم الحمد لله رب العالمين.


nyamanie@hotmail.com